كتبت مرة في «النهار» مقالاً بعنوان «بيروت قبل أن تموت»، وشبّهت المدن بقناني العطر التي لكل منها رائحة خاصة وشكل مميز، وقلت إنّ العاصمة اللبنانية تكاد تفلت من ذاتها وتفقد شخصيتها، وتغدو صورة مشوهة عن مدن الآخرين. مهما يكن، لا تزال هذه المدينة تحتفظ بنكهة فريدة خاصة، وصور أصيلة من عهود ماضيات. وبرغم ما أصابها من أهوال على أيدي أمراء الحروب وحيتان المال، وما حل بها من دمار وخراب، لا تزال من أغنى المدن ثقافة في الشرق، وأكثرها إنتاجاً للفنون، ولا يزال أهلها يقبلون على العيش بشغف لا نظير له في مدن كثيرة، حتى التي فيها من مظاهر الثراء والأمن والرخاء، أكثر مما في بيروت بكثير.
أعرف أنّ في بيروت الكثير من مظاهر البشاعة والتردي والإهمال، وسوء الخدمات العامة، من ماء وكهرباء، وزحمة سير وطرقات، وأرصفة مهملة، وشوارع غير منظمة وأبنية رثة، وقليل من الزهر والماء والشجر، لكني أؤثر القول إن نصف الكوب ملآن، على القول إن نصفه فارغ، ليس لأن بيروت مدينتي ومسقط رأسي ومنشئي ومربع طفولتي، بل لأن فيها، في مقابل ما ذكرت من مساوئ، أفخم المقاهي والمطاعم والحانات والفنادق، وأفضل الخدمات الطبية، وأجمل المحال التي تبيع أزهى الملابس التي تصنعها دور الأزياء العالمية الراقية.
أعرف أيضاً أن قارئاً سيقول عن شهادتي في بيروت إنها «مجروحة»، وأعرف أن لا مجال للمقارنة بين العاصمة اللبنانية وبين مدن العالم المتقدم، مثل جنيف أو برلين، أو مدن فرنسا وإنكلترا، من حيث النظام والنظافة، والخدمات العامة ومظاهر الرقي. لكن بيروت تبقى، برغم ما اعتلى وجهها من ندوب وبثور، وما شاب جسدها من أثر الحروب، مدينة طافحة بالحياة فوارة بالفرح، وهناك الكثيرون ممن لا تزال المدينة تستهويهم، وفيها يعيش عدد كبير من الميسورين، الذين بمقدورهم أن يسكنوا في مدن كثيرة في الشرق والغرب، لكنهم يحبون بيروت ويؤثرونها على غيرها من المدن، ويتغنون بها كما تغنى بها شعراء كبار، مثل سعيد عقل ونزار قباني ومحمود درويش، وكما غنتها مطربات قديرات محبوبات، مثل فيروز وصباح.
في بيروت مناطق كثيرة تعج بالحياة، أهمها منطقة «راس بيروت» في الطرف الغربي من العاصمة، وهذه أكثر المناطق حيوية في لبنان. قديماً، قال عنها «المفكر العروبي العثماني» الغائب منح الصلح إنها عاصمة بيروت، ووصفها المؤرخ الراحل كمال الصليبي بالمنطقة الفريدة من نوعها في لبنان والمشرق. كانت بيروت في الستينيات وحتى منتصف السبعينيات، أجمل العواصم العربية، وأكثرها حيوية ونشاطاً، وأشدها تعلقاً بالحياة والحرية. كنت يومها صبياً يافعاً، وكانت «الحمراء» ومقهى «هورس شو»، مجلس الشعراء والأدباء والفنانين. هناك رأيت طيف أنسي الحاج أول مرة، ورأيت عصام محفوظ، ونزيه خاطر، ومنح الصلح وروبير غانم وجورج غانم، وجورج ابراهيم الخوري وغسان كنفاني، ونبيل خوري ومحمود درويش، ورفيق شرف، وشوشو (حسن علاء الدين) وأحمد شومان، وميشال أبو جودة، وربما رأيت طيف نزار قباني، ومحمد الفيتوري، وجورج جرداق، وبدوي الجبل، ومحمد الماغوط، ويوسف الخال، وأطيافاً لم أتبيّنها، مثل وجوه في لوحة بلّلها المطر، إلى أن أدركت في ما بعد، وبعدما تقدم بي العمر، أنها كانت من الوجوه الثابتة في كتاب «راس بيروت»، بما فيه من أساطير وصور وحكايات وتقاليد ونوادر.

وصفها المؤرّخ الراحل كمال الصليبي بالمنطقة الفريدة من نوعها في لبنان والمشرق

لقد تغيرت هذه المنطقة، وتغيرت كثيراً. غابت عنها وجوه وحلّت وجوه، لكنها لا تزال تنعم بشيء من وهج الستينيات والسبعينيات، ومن مجالس السمر والفكاهة والثقافة، وذلك النوع الفريد من الأحاديث الشرقية التي تبدأ عند أول الليل ولا تتوقف إلا مع طلوع الفجر! لكن كما في المدن التي تفتقر إلى التجانس، يمشي الذكاء في بيروت إلى جانب الادعاء، ويسير النبوغ إلى جانب الغرور، وتجاور الموهبة الأصيلة الكبرياء الفارغة، وحيث تجد الفنان تجد مدّعي الفن، وحيث تجد الشاعر تجد الشويعر، وحيث القاص هناك القصيص، وحيث تجد الأديب يختال المتأودب، وإلى جانبهما الكاتب والكتبجي، والمسرحي والمتمسرح، والموسيقار والمتموسق!

■ ■ ■ ■ ■


في «الحمراء»، على بعد أمتار من المكان الذي كانت فيه السينما الشهيرة (سينما الحمراء)، مقهى كان اسمه قبل سنوات «كافيه دو باري» وصار اليوم «كريبواي». في هذا المقهى، يلتئم في الثامنة من كل مساء مجلس عريفه عصام العبد الله، أحد شعراء المحكية في لبنان. يتم هذا في الشتاء، أما إذا حل الربيع وجاء أيار واشتدت الحرارة، فينتقل «الصالون» إلى المقر الصيفي، مقهى «ليناس» في منطقة «فردان»، على بعد خطوات من مباني «كونكورد»، حيث المنطقة عالية، والمقهى مشرع على جهات ثلاث، والرطوبة أخف والهواء رطيب.
صديقنا عصام وجه دائم في هذا الصالون الذي يحلو لنا أن نسميه «صالون الأفندي». هذا اللقب، أي «الأفندي»، لقب يؤثره صديقنا عصام على غيره من الألقاب، مثل «الشاعر» أو «الأستاذ» أو «المعلم»، كيف لا وعدد الشعراء والأساتذة والمعلمين في البلد لا يعد ولا يحصى؟ لكن «الأفندية» قليلون، كما الزهر النادر أو العملة النادرة! أخونا عصام يقدم لك «حججاً تأريخية» دامغة تجوّز له، ولمن هم من آل عبد الله، استخدام هذا اللقب الذي كان الحكام العثمانيون في لبنان يخلعونه على من يختارون من «وجهاء» البلد، فيتوارثه الأبناء والأحفاد. ومع الزمن، تختلط الدماء بالدماء في سلم الأنساب، فلا نعرف بعدها النسيب من غير النسيب، ولا الكريم من غير الكريم، ولا يبقى لنا من حيلة إلا أن نقول مع القائلين: الله أعلم بالسرائر، وفوق كل ذي علم عليم!
تتغير وجوه الصالون كل مساء، لكن وجه «الأفندي» ثابت كثبات أبو الهول، حتى إنه صار هوية المكان وعلامته الفارقة، ما يحمّل «الأفندي» مسؤولية «الفاتورة» تجاه إدارة المقهى، يدفعها صاحبنا راضياً مرضياً ساعة يحين وقت الانصراف عند العاشرة، وبعد أن يكون قد أخذ من الحاضرين قيمة ما تناول كل فرد منهم من طعام أو شراب؛ وهذه تبعة ارتضاها أخونا عصام على رغم ما فيها من مشقة، وروّضها حتى صارت عنده أمراً عادياً.
عدد الذين يؤمّون «صالون الأفندي» بين عشرة وعشرين رجلاً وامرأة، معظمهم يتعاطون الشعر والأدب بأنواعهما المألوفة وغير المألوفة! منهم من يأتي بين يوم وآخر، ومنهم من يأتي مرة أو مرتين في الأسبوع، ومنهم الدائم كل مساء. صديقنا «عصام أفندي» حريص أشد الحرص على كرسيّه، لا يجلس أحد عليه إلا إذا كان غائباً، وهذا نادراً ما يحدث. وقد «يتشقلب» التقليد رأساً على عقب، إذا دلفت إلى المجلس غادة حسناء، عندها لا يتردد «الأفندي» من تقديم كرسيه إلى «قرص العسل» كما يحلو له أن يسمي الجميلة من النساء، أو إزاحته قليلاً إلى اليمين، أو إلى الشمال، ليفسح في المجال لذات الوجه الصبوح أن تأخذ مكانها اللائق بها. وقد يحدث أحياناً أن يغرق «قرص العسل» في بحور الشعر وأمواج الغزل، فتضيع المسكينة بين كلاسيكية «المير» طارق ناصر الدين، ومحكية «عصام أفندي».

■ ■ ■ ■ ■


على قدر حرص صديقنا عصام على مكانه في الصالون، ضنين هو أيضاً بلقب «الأفندي»، لا يشاطره فيه أحد من الجالسين، ما يذكرني بصديقنا الكاتب عرفان نظام الدين. كان عرفان يوماً مع الراحل منح الصلح، في إحدى جلسات «البك» في «راس بيروت»، وكان هناك من ينادي على عرفان كل الوقت، بلقب «بك»، إلى درجة لم يعد «البك» الكبير يحتمل، وكاد أن يفقد صبره. وأخيراً، قال بصوت حرص على أن يسمعه جميع الحاضرين، إن «بكوات» بيروت غير «بكوات» القامشلي، في إشارة مبطّنة، إلى عرفان، والمدينة السورية التي جاء منها!
مهما يكن، ليس بين رواد الصالون من له لقب «الأفندي»، ولو بسبيل الاستعارة، على رغم أن هناك «لقب شرف» آخر خاصاً بالشاعر طارق ناصر الدين، أو «المير» كما يدعوه أصدقاؤه تحبّباً. ولأسرة «المير»، وأسرة «الأفندي» جذور ضاربة في الأرض والزمن، تعود إلى عهد الأمراء التنوخيين الذين كانوا أعياناً في الجبل، ومعروفين بأمراء الغرب، لحكمهم منطقة كانت تعرف بالغرب، وتمتد على سفوح لبنان المطلة على بيروت وضواحيها. كان هؤلاء الأمراء قد اتخذوا بلدة «عبيه» مركزاً لهم، وأقاموا أول إمارة عربية على الساحل اللبناني اعترفت بها الخلافة العباسية. أما آل العبدالله فهم، كما في بعض الوثائق، تنوخيون أيضاً، ومن عشائر الدوحة التنوخية الاثنتي عشرة، التي وفدت إلى بلاد الشام، أثناء الهجرات التي سميت خطأً الفتوحات، واستوطنت بلدة الخيام التي في الجنوب.

■ ■ ■ ■ ■


أكره الألقاب الزائفة، مثل «السعادة» و»العطوفة» و»المعالي» وألقاباً مثل «الشيخ» و»البك»، التي خلعها أهل السياسة على أنفسهم، وورثوها من عهود الإقطاع، وهي لا تزال متفشية إلى وقتنا الحاضر ويا للأسف، لكني أرتضيها على سبيل التفكه، وأقبلها بمحبة حرة، إذا نسبت إلى أهل الشعر والأدب، وإلى أهل الشعر والأدب وحدهم. وفي تاريخنا المعاصر أدلة على ذلك وسابقات، فمن لبنان كان هناك الشيخ ابراهيم المنذر، والشيخ ناصيف اليازجي، والشيخ ابراهيم اليازجي، وشيوخ آخرون من أئمة البيان. وكان هناك «الإمام»، اللقب الذي كان يطلق على عالم اللغة الكبير جبر ضومط، وكذلك «أمير الدولتين»، دولة الشعر ودولة الأدب أمين آل ناصر الدين. وفي مصر، كان هناك طه حسين بك، وخليل بك مطران، وأمراء منهم «أمير الشعراء» أحمد شوقي، و»أمير البيان» شكيب أرسلان. وقد تنتقل «عدوى» الألقاب إلى مكان آخر، فنسمع بأمير الغناء، أو بأمير الطرب أو سلطانه، اللقب الذي أسبغته الجماهير على المطرب الشعبي المعروف جورج وسّوف. مهما يكن من شيء، يبقى منح الصلح في نظرنا «البك» حتى بعد رحيله، ويبقى طارق ناصر الدين «ميراً» بامتياز، ويبقى صديقنا الدكتور هيثم الأمين «سيداً» من دون منازع، أما رصيفنا العزيز، عصام العبدالله، فهو»الأفندي» من الآن وحتى قيام الساعة، شاء من شاء وأبى من أبى!
تفرض الأقدار أحكامها على كل عصر وزمان. تبعاً لذلك، لا بد من أن يأتي يوم ينفرط فيه عقد «صالون الأفندي»، كما انفرطت عقود صالونات كثيرة في بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد، وأماكن أخرى كثيرة في هذه المنطقة الحزينة من العالم، التي تتهاوى المدن فيها مثل أوراق الخريف. يروح جيل ويأتي جيل، تغيب وجوه وتدنو وجوه، ومعها تلتئم حلقات وأمسيات، ولا يبقى لنا، من زماننا هذا العجيب الغريب، إلا الرجاء، أن يبقى لبنان وتستمر الحياة بوتيرتها المعهودة، وألوانها المتعددة، وتبقى «راس بيروت»، بما فيها من صالونات ومجالس، صورة تحاكي ظلال صورة قديمة أثيرة، نغمة عذبة شجية تردد أصداء زمن جميل.