في الأول من نيسان عام 2014 أقرّ المجلس النيابي تحت ضغط منظمات المجتمع المدني قانون «حماية أفراد الأسرة من العنف الاسري». صحيح أنّ القانون خضع لعملية تشويه في اللجان النيابية أفرغته من مضمونه، إلا أن إقراره مثّل كسراً لأسطورة «قدسية الحيز الخاص المؤسسة للعديد من الانتهاكات بحق المرأة داخل الأسرة، عبر نقل المعركة السياسية من اجل المساواة والعدالة الى قلب هذا الحيز، والتصدي لانتزاع هذا الحيز من سطوة المؤسسات الدينية الذكورية»، وفق بيان المنتدى الإشتراكي.
لم يحصل كسر القدسية هذا سوى بعد نضالات طويلة وتضحيات ثمينة، فقُتلت كريستال ومنال ورولا وفاطمة وصونيا وغيرهنّ الكثيرات. مثّل مقتل منال العاصي بعد تعذيبها على يد زوجها الجريمة التي حرّكت الاف الناس، فنزل في 8 اذار 2014 نحو خمسة الاف شخص للمطالبة بقانون يحمي النساء من العنف الأسري، وكان لهم هذا بعد شهر. بعد ذلك بدأت قرارات الحماية تصدر عن القضاة وتوجهت النساء الى المحاكم ليرفضن التعنيف، كذلك بدأت تظهر الثغر في القانون.
منذ اقرار القانون حتى اليوم قُتلت ديالا وولاء وسلوى ونوّار الخالد وسلام ونسرين روحانا وفاطمة. السيناريو نفسه تكرّر بعد عام، فقُتلت سارة الأمين بـ 17 رصاصة في رأسها لينكشف لنا ما يحصل في القضاء من مماطلة وتقصير، وليعلن الناس أنّه «للصبر حدود»، فكانت تظاهرة أول من أمس، التي نظمتها منظمة «كفى» أمام المتحف للإسراع في محاكمة قتلة النساء.
كثيرات من المشاركات (والمشاركين) في التظاهرة كانوا هنا منذ عام، أي في تظاهرة 8 آذار، في الفترة الفاصلة بين التظاهرتين ظنوا انّ الأمور سالكة. تقول حنان «لم نكن على علم بأنّ القضاء يماطل في بت هذه القضايا. لو لم تُقتل سارة لما عرفنا انّ هناك قتلة أحرارا».

«لا يجوز ان نطالب بالاعدام، هذا ليس الحل»


رجال ونساء، صغار وكبار أعلنوا أنّ صبرهم نفد، فصرخوا عالياً «ثوروا ثوروا وعلّوا الصوت أحسن ما غيرن يموت»، «شو يا قاضي سرود عبرود ما نسينا فاطمة بكور». قرر هؤلاء رمي العقلية الذكورية التي يصنعها هذا المجتمع في الزبالة، فرموا أكياسا سوداء كُتبت عليها عبارات مثل «اتحمّلي، ما تخربي بيتك، المرا جازتها بتسترها، الف مرة ارملة ولا مرة مطلقة»، وغيرها من الأقوال التي يستخدمها المجتمع من أجل إخضاع المرأة، وإحكام السيطرة الذكورية على الأسرة. لكن ماذا بعد نفاد صبر المشاركين والمشاركات؟ ما الخطوات التي ستأخذ حق النساء اللواتي قُتلن؟
تقول محامية «كفى» ليلى عواضة «استراتيجيتنا اليوم هي المطالبة بمحكمة اسرية خاصة لبت ملفات العنف ضد النساء. هذه المحكمة كنت مطروحة في النسخة الاولى من القانون وجرى حذفها. لم نصر عليها آنذاك لأننا رأينا انها ليست اولوية، ولكننا كنا مخطئين، هذه المحكمة تمثل مطلبا اساسيا». في تلك الفترة كان رجال الدين اوائل المعترضين على هذه المحكمة، لأنها تعدّ مسّاً مباشراً بصلاحياتهم داخل الأسرة. تضيف عواضة «جميع التحقيقات والمحاكمات التي تحصل تتعاطى مع حادثة القتل، لا مع العنف المتكرر من ضرب وتعذيب طوال سنوات. هذه الامور يجب ان تؤخذ بعين الاعتبار، ويجب استخدامها في تشديد العقوبة، أي إن القضاء يجب ان يحاكم على العنف المرتكب، لا على فعل القتل فقط. بعض الأحكام التي صدرت كُتب فيها حرفياً : ثار غضبه فأقدم على قتلها!».
أم رولا يعقوب حضرت بمأساتها. في التظاهرات السابقة كانت لا تنفك تردد «قتلي بنتي. جبلا التابوت وجبلا فستان ونحنا ما معنا خبر. كان بدو يدفنا بلا ما يقلنا». اليوم، قبل سؤالها عن أي شيء تصرخ بقلب محروق «منعوا عنه المحاكمة، دافعين مصاري شو انن بلا ضمير! انشالله يحترق قلبن متل ما حرقولي قلبي. باعوا ضميرن عحساب بنتي». يشير الاختلاف في كلام الأم المفجوعة الى التبدّل الذي حصل في القضية، لم تعد حادثة القتل ما يزعج الأم، بل أصبحت المحاكمة غير العادلة هي القضية، إفلات المتهم من العقاب هو ما زاد غضبها، لتصبح اليوم تريد الثأر، وتحديداً الإعدام. هي وثقت في البداية بالقضاء ولجأت اليه ظنّا منها انها ستتمكن من أخذ القليل من حق رولا المغدورة إلا أن الحكم الصادر بمنع المحاكمة عن كرم الباز جعلها تتخلى عن هذه الثقة.
حضرت أخت نسرين روحانا الى جانب والدة رولا. تقول «الو 6 اشهر موقوف لا جلسات ولا محاكمة. لم يعد لدينا امل بالقضاء بسبب ما نراه من معاناة اللواتي سبقننا». والدة فاطمة بكور جلست على أدراج المتحف تصرخ «خالد الغوراني الو سنة و8 اشهر بالحبس من بعد ما ذبح بنتي هيي وحامل. صارو 3 جلسات، كل 3 اشهر جلسة 10 دقايق. بدي ينحكم باشد العقوبات حتى يصير عبرة للكل».
انطلقت التظاهرة باتجاه وزارة العدل، ومرت من جانب والدة فاطمة فتاة تحمل لافتة كُتب عليها «اليد التي ستمتد الى النساء سنقطعها»، لترتفع الصرخات المطالبة بـ»الاعدام»، علما ان اكثرية الناشطات والناشطين في التظاهرة يقفون ضد عقوبة الاعدام ويطالبون بالغائها. «من أيار 2013 حتى ايار 2015 هناك 16 حالة قتل في المحاكم لم تُبتّ ولم يصدر حكم في أي منها، بالعكس بعض المتهمين أحرار!»، تقول رئيسة منظمة «كفى» زويا روحانا.
إذاً هو عنف أصبح اليوم يستدرج عنفا مضادا، سببه كما تبيّن في التظاهرة تراخي القضاء في ملاحقة القتلة والمماطلة في المحاكمات، ما رسّخ لدى الأهالي فكرة الثأر كسبيل وحيد لأخذ حق بناتهنّ. هذا المؤشر الخطير يفرض على القضاء التحرّك فوراً لتحقيق العدالة، كي لا يكون مشاركاً في تعميم العنف وخلق عنف مقابِل.
يعترض احد المشاركين على الهتافات: «لا يجوز ان نطالب بالاعدام، هذا ليس الحل. الانسان لا يردعه شيء عن الجريمة سوى الخوف من القانون لذلك فالحل هو التشدد في تطبيق القانون». صحيحٌ أنّ القوانين تتطور مع تطور المجتمع، إلّا أنّ القوانين يمكن أن تمثل ايضاً وسيلة لتطوير المجتمع فتكون المبادِرة الى هذا التطور، وهذا هو المطلوب اليوم من القضاء، أي أن يقود تطور المجتمع عبر رفض العنف ليس بصفته امرا غير اخلاقي، بل بصفته عنفا يؤثر على المجتمع ككل.
تقول عواضة «ليس من السليم على الإطلاق المطالبة بعنف مقابل. لا يمكن كمنظمة ان نطالب بالاعدام لانه مخالف لحقوق الانسان، لكن في هذا الوقت لا يمكن ان نزايد على اهل الضحايا الذين لم يشف غليلهم أي حكم صدر حتى اليوم».
لم يكن الرهان على قانون العنف الاسري يوماً لوقف الجرائم، إنما الرهان الاساسي منه هو تكريس الحق باللجوء الى القضاء، فالقانون لن يوقف الجرائم (مثلما لم يوقف القانون عمليات السرقة او القتل) لكنه سيكون رادعاً للمجتمع عبر التأكيد على محاسبة المجرم، وإنزال اشد العقوبات بحقه. لهذا فإن القضاء يؤدي الدور الرئيسي بردع المجرم، وما لم تحصل محاكمة عادلة وتشدد في المحاسبة، فسنتعرف في الأيام المقبلة على مجرمين جدد، وعلى ضحايا جدد، سيكون المساهم الأول في مأساتهم هو القضاء.