«حتى لو ثبتت صحة الوثائق ودقّتها واعتمدتها المحكمة كأدلّة، فإننا سنصدّق فقط كلام الشهود (من طرف الادّعاء) وليس ما ورد في تلك الوثائق من إثباتات تمسّ بصدقيتهم». لا تحتاج هذه العبارة لمتخصص بالقوانين لتبيان تعسّفها، لا بل... وقاحتها! لكن تلك هي آخر «إبداعات» «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان»، التي قرّرت أن تنحاز إلى أقوال سياسيَّين لبنانيَّين لعبا دور «شهود» على منبرها، وأن ترفض أدلّة توثّق كلاماً صادراً عنهما أو عن زملاء لهما، من شأنه أن ينسف صدقيتهما، والأهمّ أنه قد يؤثر على مجمل التحقيقات.
في التفاصيل، أن محامين من فريق الدفاع عن المتهمين من قبل «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» باغتيال رئيس الوزراء الأسبق الشهيد رفيق الحريري، استشهدوا خلال استجوابهم لـ»الشاهدَين» فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط بكلام ورد في وثيقتين من البرقيات التي سُرّبت عن وزارة الخارجية الأميركية ونشرها موقع «ويكيليكس».

السنيورة لا يعرف

الوثيقة المتعلّقة بالسنيورة تعود إلى تموز ٢٠٠٧، وهي تنقل محضر اجتماع دار بين وزير العدل في حكومته حينها شارل رزق والسفير الأميركي في بيروت، وفيه يطلب رزق من السفير «الضغط بشكل كبير لمنع إطلاق سراح الضبّاط الأربعة». هذا الكلام، على أهميته وخطورته، أشار إليه بعض محامي الدفاع ورأوا أن من شأنه أن «يمسّ بصدقية السنيورة لكون حكومته قامت بمناورات خادعة وحِيل في قضية الضباط الأربعة». وهذا حسب المحامين «يدلّ على أن السنيورة نفسه قد يحاول التلاعب بمجرى العدالة من أجل غايات سياسية». الدفاع رأى أن هذا الأمر «قد يؤثر على مجمل التحقيقات بما أنه يتعلّق بقضية السجن التعسفي للضباط الأربعة»، المرتبطة مباشرة بقضية اغتيال الحريري.
لكن، خلال استجوابه، وردّاً على ما ورد في البرقية، أجاب السنيورة حرفياً: «ما ذُكر في ويكيليكس، لا أعرف. ليس لدي معلومات بشأنه. هذه أول مرة أسمع به».

رفضت «محكمة لبنان» إعتبار وثائق «ويكيليكس»
قرائن قانونية

الادّعاء بدوره، اعترض على استخدام الدفاع وثائق من «ويكيليكس» «لأن دقّتها ليست مؤكدة»، ولأن «الخارجية الأميركية لم تعترف بصحة مصدرها»، ولأنه «تمّ الحصول عليها بطريقة غير شرعية». لذا، رأى أنه يجب «استبعادها» بموجب قواعد إجراءات المحكمة.

جنبلاط لا يتذكّر

الوثيقة المتعلّقة بوليد جنبلاط، تعود إلى نيسان ٢٠٠٨، وفيها يبدي الأخير للسفير الأميركي «قلقه من أنه يتمّ بناء ميليشيات سنّية من خلال تيار المستقبل» قائلاً إن «تأسيس سعد الحريري ميليشيا سنيّة سيسبب ضرراً كبيراً لحركة ١٤ آذار». استند أحد محامي الدفاع إلى تلك الوثيقة في معرض استعراض ظاهرة صعود المجموعات المتطرفة في لبنان وفرضية أن تكون إحداها وراء اغتيال الحريري.
جنبلاط ردّ عليها بالقول إنه «لا يتذكّرها» وقال إن كلامه (المذكور أعلاه) «كان تحليلاً شخصياً غير دقيق». الادعاء هنا أيضاً اعترض على استخدام وثيقة من «ويكيليكس».

«الغرفة» تزايد على الادعاء

في الجدل حول صحّة البرقيات، رأى محامو الدفاع أن «الحكومة الأميركية اعترفت بتسريب برقيات تابعة للخارجية الأميركية ولم تنف الخارجية صحّة مصدرها، ما يجعلها أدلّة دقيقة، لذا ما من سبب يحول دون اعتمادها من قبل غرفة الدرجة الأولى».
لكن «الغرفة» تلك التي تتولّى محاكمة «المتهمين» في قضية اغتيال الحريري في «المحكمة الدولية»، حسمت الجدل سريعاً... لمصلحة الادّعاء. إذ أصدرت في ٢١ أيار الماضي قراراً «ترفض بموجبه اقتراح الدفاع اعتماد برقيتي ويكيليكس كدليل».
المشكلة لا تكمن في القرار فحسب، بل في شرح «الغرفة» سبب قرارها ذاك، حيث تفوّقت على نفسها وزايدت على الادّعاء بالتسليم بصدقية الشهود. إذ تقول في إحدى فقرات نصّ القرار: «بما أن السنيورة شهد بأنه لا يعرف شيئاً عن اجتماع رزق بالسفير ونفى» ما نقل عن لسان رزق، فإن ذلك «ينتقص كثيراً من منفعة الوثيقة». كذلك «حتى لو ثبتت صحّة البرقية فيبدو من الصعب أن نفهم ما صلتها بصدقية السنيورة»، وحتى «في حال اعتمدت كدليل، فإن الوثيقة لن تكون سوى إشاعة حول اجتماع ما لم يحضره أي شاهد في القضية».
وفي برقية جنبلاط أيضاً، لجأت «الغرفة» إلى الحجج ذاتها، فقالت إن «الوثيقة المذكورة ليست لجنبلاط وهو أنكر ما نقلته عن لسانه»، بالتالي، حتى لو «اقتنعنا بصحّتها واعتمدناها كدليل» فسنكون أمام «إشاعة غير دقيقة من جهة وكلام جنبلاط تحت القسم النافي لها من جهة اخرى». أي، «لن يبقى للغرفة سوى كلام جنبلاط».

اعتراف دولي بالبرقيات

«محكمة دولية» أخرى تابعة لـ»الشرعية الدولية» نفسها التي تتبع لها «المحكمة الخاصة بلبنان»، اعترفت بصحّة برقيات «ويكيليكس» في محاكمة رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور. إذ أصدرت «المحكمة الخاصة من أجل سييراليون» قراراً يقضي بقبول إحدى وثائق «ويكيليكس» واعتبارها ذات صلة بموضوع المحاكمة. الأمر الذي أشار له فريق الدفاع في «المحكمة الدولية الخاصة بلبنان» لكن «الغرفة» ردّت عليه بتعداد محاكمات أخرى رفضت الاعتماد على برقيات «ويكيليكس».
يذكر أن فريق الدفاع عن مصطفى بدر الدين طلب الإذن لاستئناف قرار «رفض الأخذ بوثائق ويكيليكس».