للمرة الأولى منذ مدة طويلة لا يتعلق الأمر بأشخاص أو بصفقات، بل بفرصة الإثبات أن بوسع موظف في هذه الدولة الوصول إلى أعلى هرمه الوظيفيّ دون أن أن «ينذل» ويتخلى عن كرامته ويرهن نفسه لعدة سياسيين. تلوح غداً فرصة كبيرة لإحداث فجوة في معايير رفيق الحريري المعتمدة منذ الطائف لاختيار رؤساء الجمهورية والوزراء والنواب وقادة الجيش والمديرين العامين وفق نموذج يتطابق مع نائبه السابق غطاس الخوري، على حد قوله لوزير الخارجية السوري وليد المعلم. فرصة خلخلة المهزلة التي اختصرها وزير الدفاع السابق الياس المر حين قال إنهم اختاروا ميشال سليمان لقيادة الجيش لأنه كان «أضعف ضابط في الجيش».
القضية واضحة: يمكن أو لا يمكن غير الموظف عند آل الحريري (وكل من قبض «هدية» منهم موظف عندهم) أن يثبت وجوده في هذا النظام؟ ويمكن أو لا يمكن قائد الجيش ألا يكون مرتهناً لأحد وأن يقدم على ما يمليه عليه ضميره دون الحصول على موافقة مسبقة من عدة أفرقاء سياسيين؟ مع العلم أن تعيين قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز قائداً للجيش، يمثل فرصة للبنانيين لأن يحظوا أخيراً بقائد جيش لا يبدأ العمل للوصول إلى القصر الجمهوري فور دخوله إلى اليرزة. ولا شك في أن كل ما يقال عن وجود ضباط أكفاء أقدر من روكز ربما على قيادة الجيش في هذه المرحلة صحيح، إلا أن الأمر لا يتعلق بالكفاءة فقط، إنما بالتأييد الشعبي أيضاً، ففي مرحلة التجاهل الكامل لإرادة الرأي العام تمديداً هنا وهناك لا بدّ من تعيين رجل قوي شعبياً على نحو يرفع بعض المعنويات.

كثيرون يعوّلون
على روكز اليوم لحمايتهم

لم يكتف روكز بعدم السكر بالحالة الشعبية المحيطة به وبمغاويره، إنما حرص على أن لا تصل إلى مكتب قائد الجيش العماد جان قهوجي ملاحظة واحدة تتيح له اتهامه بمخالفة السلوكيات العسكرية الصارمة، برغم اجتهاد عدة أجهزة لالتقاط شيء عنه. وهذا هو موقف العماد قهوجي نفسه الذي يقول ان روكز ضابط لا يخالف الأصول مطلقا، وما يجري حوله خارج المؤسسة من صنع السياسيين ووسائل الاعلام. عملياً لا يمكن الرجل أن يطلب ممن يتدافعون لالتقاط صورة معه أن يبتعدوا عنه؛ فهو يبتسم للكاميرا ويكمل طريقه، دون أن يطلب بطبيعة الحال ممن تصور معه أن ينشر الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي. مع العلم أن رفع صوره واللافتات المؤيدة له وتحويله إلى أسطورة والتداول باسمه يدفعه الى التوتر أكثر مما يسعده. ولا بد من تكرار التأكيد أن إعجاب العونيين به سابق لمصاهرته العماد ميشال عون، ومن يدقق قليلاً يكتشف أن الاشمئزاز من الحالة الأمنية القائمة دفع كثيرين لا يعرفون شيئاً عن روكز إلى التعويل عليه، ولا شك أن كثيرين ممن اندفعوا إلى معراب قبل بضع سنوات مفترضين أن قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع قادر على حمايتهم يعوّلون على روكز اليوم. ويبدو صعباً فَهمُ الشغف الشعبي (الذي تمظهر بأبهى صوره في الشوف قبل بضعة ايام) بهذا الرجل، في ظل صمته السياسي؛ لماذا كل هذه الحماسة لرجل لم يسمع صوته بعد؟ لسبب وحيد: «الهيبة».
ففي وقت كان السياسيون ينحنون فيه لالتقاط الدولارات عن الأرض بأسنانهم، وبيع المناصب «شغّالاً»، والخطابات السياسية تعلك التناقضات، كان روكز يبني «هيبة»: يبتسم بدل أن يضحك، ينام في بذلته بدل أن يخلعها ليرقص هنا وهناك، ويبدي حرصاً شديداً على عدم السماح لعصابة رجال الأعمال أن تورطه بالإحاطة به هو أيضاً. هذا ما أحبه الناس؛ أحبوا صمته. وهذه هي فرصة شامل روكز: فرصة وصول رجل لم «يعلّ» قلب اللبنانيين بتملقه السياسيين، فضّل المخاطرة طريقاً إلى النجاح بدل المصاهرة، ولم يُثقل أسماع الناس بالدعاء لطويل العمر وخلَفه من بعده.
في هذه اللحظة الإقليمية تبدو الحاجة كبيرة لتعزيز ثقة اللبنانيين بجيشهم وتعزيز ثقة الجيش بنفسه وإفساح المجال أمامه لأداء دور أكبر في مواجهة التحديات المقبلة. وفي ظل منع العماد عون من الوصول إلى بعبدا، بات هذا كله مرتبطاً باستحقاق قيادة الجيش كمتنفس وحيد. ومن يعرف روكز يلاحظ كل العصي التي سعى الأقربون قبل الأبعدين لوضعها في دواليبه؛ فبعيداً عن كل ما يشاع لن يكون لأي طرف سياسي مصلحة مباشرة في تعيين روكز غداً قائداً للجيش؛ هذا ما يجعله فرصة كبيرة.