أورد صندوق النقد الدولي في تقريره الأوّلي الصادر في الشهر الماضي في إطار «المادة الرابعة» مجموعة من الملاحظات والتوصيات. بعضها، او ما يشبه بعضها، سبق ان طرحه الوزير السابق شربل نحاس، عندما كان وزيراً للعمل، وقبل ذلك وزيرا للاتصالات، ولا سيما مشروع التغطية الصحية الشاملة الممولة من الضرائب بدلا من الاشتراكات، بما يتناسب مع أهداف خلق فرص عمل ذات قيمة مرتفعة توقف هجرة الأدمغة وتحفّز النموّ... هذا الطرح، مع ما تضمنه من اقتراح تعديلات جوهرية في النظام الضريبي باتجاه استهداف الريع والارباح بدلا من الاستهلاك، ادى إلى استبعاده عن الوزارة.
الصندوق يعيد طرح هذه القضايا بلهجة «ديبلوماسية» مختلفة، لكنها تفتح باب النقاش مجدداً عن مستوى وحجم الإصلاحات المطلوبة والهدف منها، إلا أن تنفيذ هذه الأفكار «الجيّدة» يتطلب «الحدّ الادنى من الاستقرار السياسي» وفق الخبير الاقتصادي غسان حاصباني، و«التوافق السياسي» بحسب الخبير الاقتصادي غازي وزني، فيما يصف نحاس تقرير الصندوق بأنه «برنامج تقدّمي»، لافتاً إلى أنه «عند مقارنته بالبرامج المطروحة من الأحزاب اللبنانية والأطراف الفاعلة في لبنان، لا يمكن إلا أن نرى أنه تقدّم عليها جميعاً. هذا برنامج تقدمي واشتراكي بالنسبة إلى اللبنانيين، إلا انه برنامج يجابه في لبنان منذ فترة طويلة».

البرنامج المقترح

يتحدّث صندوق النقد الدولي عن حاجة لبنان إلى تعديل نموذجه الاقتصادي، مشيراً إلى متطلبات إجراء «تغييرات حاسمة على صعيد السياسات المطلوبة لتقوية الثقة، التي لا يمكن الحصول عليها مجاناً في ظل الأوضاع الحالية». المؤشرات التي تبرّر هذه الوجهة مستقاة من الخلاصة الآتية: «المحفّزات التقليدية للاقتصاد اللبناني فشلت في تأمين نموّ جيّد»، لذلك، فإن الحاجة باتت ملّحة من أجل «خلق نموذج للنمو الاقتصادي، ديناميكي وشامل وأقل هشاشة». فما بات واضحاً اليوم هو أن الاقتصاد اللبناني يفقد تنافسيته. يشير الصندوق إلى أنه يمكن تفسير هذا الأمر، جزئياً، من خلال «ضعف الخدمات الرسمية، وضعف شبكات الأمان الاجتماعي. إن وقف هجرة الأدمغة يتطلب تأمين الخدمات الاساسية وشبكات أمان اجتماعي تكون نزيهة وموثوقا بها».
إذاً، اصبحت التوجهات المستقبلية تتطلب تغييراً جذرياً. يعزو وزني ذلك إلى «المخاطر الكبيرة التي تواجه اقتصاد لبنان، وخصوصاً التحديات الاستثنائية والنموّ المخيّب، كما ورد في تقرير صندوق النقد. هذه التحديات هي اجتماعية ومالية واقتصادية وسياسية، وقد أوجبت على الصندوق أن يأخذ بالاعتبار مشاكل سوق العمل وزيادة معدلات الفقر والبطالة وتفاقمها ارتباطاً بحركة النزوح السوري الكثيف إلى لبنان».

نموّ الوظائف على المدى
البعيد يتطلب استقرارا اجتماعيا

«أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً». هذا المثل ينطبق على مضمون تقرير صندوق النقد والانتقادات التي كانت توجّه إليه في السابق بسبب تركيزه على وصفات جاهزة ومعلّبة عن ضرورة زيادة الضرائب على الاستهلاك في مواجهة العجز المالي، إلا أنه في التقرير الأخير كرّر مراراً عبارات «زيادة الإنفاق الاجتماعي» و«زيادة الإنفاق الرأسمالي» و«إصلاح سوق العمل». ظهرت هذه العبارات بوضوح في سياق كلام الصندوق عن انكشاف لبنان على المخاطر التي تستوجب تعزيز النمو وزيادة خلق فرص العمل وتدعيمها بالاستقرار الاجتماعي.
ويشير الصندوق إلى مزاحمة بين الإنفاق على كلفة الدين العام وبين الإنفاق الاجتماعي والاستثمار الحكومي، وفي النتيجة تبيّن له أن «الإنفاق الاجتماعي في لبنان غير مناسب». فمن شأن الإصلاحات المطلوبة على أساس «إعادة التوازن في الإنفاق» أن تعيد النموّ وفاعليته إلى مساره الصحيح من خلال «زيادة الإنفاق على البرامج الاجتماعية وعلى المشاريع الرأسمالية (الإنتاجية) وتخصيص مبالغ أكبر لها، إذ إن الاقتطاع من الإنفاق على المشاريع الرأسمالية (كما كان يحصل في السنوات الماضية) يحدّ من النموّ».
حاجات لبنان، في رأي صندوق النقد الدولي، تشمل إصلاح سوق العمل من أجل خلق فرص في سوق العمل النظامي للعمال الأقل مهارة، وذلك من خلال برامج اجتماعية وبرامج حكومية على المدى القصير. أما على المدى البعيد، «فعلى لبنان أن يطوّر قطاعات ذات قيمة مضافة مرتفعة لامتصاص تدفقات طالبي العمل الجدد من فئة العمال المهرة، علماً بأن غالبيتهم تبحث عن فرص العمل خارج لبنان». الصندوق يرى أن «نموّ الوظائف على المدى البعيد يتطلب استقرارا اجتماعيا على المدى البعيد أيضاً».
أما التعديلات الضريبية التي يقترحها الصندوق، والتي تكرّرت في التقارير الأخيرة خلال السنتين الماضيتين، فهي تشمل إقرار الضريبة على الأرباح العقارية، وزيادة الضريبة على الفوائد، وزيادة الضريبة على أرباح الشركات. ولم يبق من وصفات الصندوق الجاهزة، سوى زيادة الضريبة على المحروقات (ديزل وبنزين)، وزيادة ضريبة القيمة المضافة بمعدّل 1%.

وقت مناسب للتطبيق؟

خلفية هذا الأمر واضحة لصندوق النقد، لكن في رأي حاصباني، فإن تقديم هذه الطروحات لا يشير إلى إمكان تطبيقها بصورة منفصلة عن بعضها بعضا «فهي يجب أن تكون ضمن سلّة متكاملة». العناصر التي يتحدث عنها صندوق النقد «يغذي بعضها بعضاً»، إذ إن «زيادة الإنفاق الاستثماري المحلي والأجنبي تخلق حكماً فرص عمل، وهو الأمر الذي يؤدي أيضاً إلى توسيع الاقتصاد، وبالتالي لا تكون الزيادات الضريبية مضرّة. إذا توسّع الاقتصاد بصورة كبيرة، يمكن الاستغناء عن الزيادات الضريبية».
اللافت أن أفكار بعثة صندوق النقد لم تنل إعجاب اصحاب المصارف. البعثة اجتمعت مع مجلس إدارة جمعية المصارف لمدّة ثلاث ساعات، وسمعت منهم انتقادات واسعة نظراً إلى كون الصندوق يقترح التعديلات الضريبية، التي أعربوا عن رفضهم لها، لأنها تطاول مصالحهم وثروات كبار المودعين والمتاجرين بالعقارات. النقاش مع أصحاب المصارف، لم يكن «ظريفاً»، إذ استعاد هؤلاء النقد الذي كان يوجّه للصندوق سابقاً من الفئات الفقيرة والمتوسطة. وبحسب أعضاء في مجلس إدارة جمعية المصارف، تلقى أفراد بعثة الصندوق انتقادات عن وصفات «معلّبة» و«جاهزة» وأن الخلاف بين الصندوق ورؤية مصرف لبنان، بوصفه حامي المصارف، عمرها أكثر من 20 سنة، وأنه خلال هذه الفترة كانت كفّة الميزان ترجح لمصلحة مصرف لبنان.
هل حان وقت تطبيق «برنامج» صندوق النقد؟ يجيب حاصباني، بأن الوقت المثالي لن يأتي أبداً بسبب التقلبات التي نشهدها في المنطقة بصورة متواصلة، «لكن يحتاج الأمر إلى الحد الأدنى من الاستقرار السياسي والدستوري». أما وزني، فيقول إنه «في ظل الوضع الحالي من الصعب جداً الاستجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي... الخلافات السياسية تنعكس على عمل الحكومة وعلى إنتاجية المجلس النيابي».




الذمم التجارية تقفز

يقول رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شمّاس، إن اللقاء مع بعثة صندوق النقد الدولي هو الأول من نوعه، وإن اعضاء البعثة كانوا مستمعين في غالب الأحيان. أبرز ما دار في اللقاء أن البعثة تحدثّت عن ضعف الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، فيما استمعت إلى أوضاع التجّارة، التي تعاني «ضعف الاستهلاك وتقلص الدورة الاستهلاكية». وعزا شماس هذا الأمر إلى «ضعف القدرة الشرائية للمقيمين في لبنان، وعدم اليقين وعدم الاستقرار السياسي». ويلفت شماس إلى أن النتائج جاءت قاسية على القطاع التجاري، «فقد بدأ التجّار يعانون مشكلة سيولة. في الأوضاع الطبيعية أو العادية، كانت الذمم الدائنة في السوق، أي الديون غير المسجّلة لدى المصارف، وتبقى ديوناً مسجّلة بين الموردين وتجار الجملة والمفرق، تراوح بين 4 مليارات دولار و5 مليارات، إلى أنها اليوم ارتفعت إلى ما بين 7 مليارات دولار و8 مليارات. هذه الزيادة في الذمم تعني أن تاجر المفرّق يعاني كساد البضاعة، وأن تاجر الجملة لا يستطيع تحصيل ديونه من تاجر المفرق، وأن المستورد كذلك يعاني صعوبات في تحصيل أمواله من تاجر الجملة، فيما يدفع مبالغ إضافية هي عبارة عن فوائد مصرفية على خطوط التمويل».
«هذا الوضع سبّب صرخة في الاسواق التجارية، وهو ما ركّزنا عليه في الحديث مع بعثة صندوق النقد الدولي» يقول شماس.