نداءات استغاثة عديدة أطلقها مربّو غنم العواس (الغنم الشامي)، محاولين الاستعانة بالحكومة السوريّة، وبمنظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو)، في ظل ارتفاع أسعار الأعلاف، وأجور النقل، جرّاء الأزمة، ما يجعلهم يعانون صعوبات جمّة في تربية أغنامهم، ويدفعهم إلى بيعها، ليكون مصيرها التهريب إلى خارج الحدود.
وفضلا عن كون غنم العواس أحد مصادر الدخل القومي في سوريا، فإنّه أيضاً مصدر معيشة لآلاف المربّين، الذين يرزحون اليوم، كجميع السوريين، تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية المترديّة، نتيجة الحرب المستمرّة. وكان لخروج العديد من المناطق السورية عن سيطرة الجيش السوري، الأثر البالغ في تدهور هذه الثروة الوطنية، فقطعان الشمال السوري يجري تهريبها إلى تركيا، بينما تجد قطعان المناطق الشرقية طريقها نحو العراق، وقطعان الجنوب نحو الأردن، ومن ثمّ إلى السعودية. أمّا لبنان، فيعد سوق التهريب الأوّل، لأغنام العواس، المنتشرة في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، وذلك بحكم وجود العديد من المعابر غير الشرعيّة، بين البلدين، التي يصعب على مديريات الجمارك ضبطها. ويحاول التجار والمهربون الاستفادة من فارق أسعار اللحوم بين لبنان وسوريا. فسعر الكيلوغرام الواحد من لحم العواس، الذي يبلغ في سوريا 3.5 دولارات أميركي (900 ليرة)، يصل سعره في لبنان إلى 9 دولارات. ويبدو أنّ الحكومة السوريّة ما كانت لتدق ناقوس الخطر، إزاء نداءات المربين، لولا شيوع ظاهرة تهريب إناث العواس، الممنوع ذبحها أو تصديرها، لكونها الضّامن لحفظ النوع، ما يجعل تهريبها يترك آثاره السلبية على عمليات التكاثر، وبالتالي يهدّد الإنتاج.
مدير الزراعة في محافظة حمص، محمد نزيه الرفاعي، يوضح، في حديث لـ»الأخبار» أنّ «المراعي الأساسيّة في البادية باتت غير آمنة. المراعي الخضراء المترامية، في محيط حقلي الشّاعر وجزل، أصبحت خالية من القطعان، لكونها مناطق تماس في المعارك الدائرة حالياً». ويشير الرفاعي إلى محميّة «محسة»، 25 كم غرب مدينة القريتين، جنوب حمص، كمثال حيّ عمّا تتعرّض له المراعي. فالمحميّة التي تبلغ مساحتها 13 ألف هكتار، والتي تصل المساحة المزروعة فيها إلى 3930 هكتاراً، تعرّضت لاجتياح من المسلّحين «ما أخرجها، بأكملها، عن الخدمة».

تهريب العواس يجري بالاستفادة من إحدى مواد القانون ومن فساد في الجمارك

ويتابع متحدّثاً عن معاناة المربين، المتمثلة بارتفاع أسعار الأعلاف، «إذ وصل سعر كيلوغرام النخالة إلى 38 ليرة، فيما تصل أجرة نقل رأسين من الأغنام، ضمن سيارة عادية، إلى 25 ألف ليرة، وتتجاوز أجرة نقل قطيع من الأغنام، من سوق الملّاحة، شرقي حمص، ضمن سيارة قاطرة ومقطورة، إلى ما يزيد على 200 ألف ليرة. وهذه التكاليف المرتفعة ترغم صاحب القطيع على بيعه مكرهاً».

المهربون.. والحيل المكشوفة

من سوق الملاحة، القريب من الفرقلس، شرق حمص، تبدأ الحكاية. ينظّم المهربون عملية تقسيم الأغنام على عدّة سيارات. تكتفي كلّ سيّارة بحمل ما لا يتجاوز 5 رؤوس، لإعفائها من مساءلة دوريّات الجمارك، بحسب القانون السوري. ومن ثمّ تبدأ الرحلة على مرحلتين، الأولى: انطلاقاً من سوق الملاحة، إلى حمص ومحيطها، بحجّة الاستهلاك المحلّي. والثانية: تجميع الأغنام المخصصة للتهريب، في أماكن يتفق عليها القائمون على العملية، ضمن قطعان، يتجاوز عددها الـ70 رأساً، بهدف ترحيلها عبر الحدود مشياً، أو ضمن سيّارات تحظى بتغطية بعض عناصر الجمارك، المتّهمين بالتورّط في عمليات التهريب، بالاشتراك مع تجار سوريين ولبنانيين. وعلى الرغم من تحرير مديريات الجمارك محاضر ضبط شهرية، بحق المشتبه بتورطهم في عمليات تهريب العواس، فإن لضبّاط الجمارك شجونهم حيال القضيّة. وبينما ينفي عدد من الضباط ورود أيّ شكاوى على عناصر الجمارك، رغم وجود أرقام الشكاوى على جميع سيارات الضابطة الجمركية، فإنّ أحدهم يرى أنّ تهريب العواس يجري بالاستفادة من إحدى مواد القانون، القاضية بإعفاء من حاز 5 رؤوس من الغنم، وما دون، من تنظيم أيّ مستند جمركي. وباعتبار الخريطة الجمركية، في سوريا، مقسمة إلى منطقتين، داخل النطاق وخارجه، بحسب قربها من الحدود، وللضابطة الجمركية صلاحياتها ضمن المناطق الواقعة داخل النطاق، أي الأقرب إلى الحدود، فإن إخراج الأغنام، من المناطق الحدودية، إلى المناطق الواقعة خارج النطاق، يتطلّب تنظيم ما يسمى «إجازة تسيير»، فيما يتعيّن على كل صاحب قطيع، أن يحمل بياناً، مسجلاً في الجمارك، للسماح بالرعي. وإذا زاد عدد رؤوس أغنام القطيع على 20 راساً، فعليه تنظيم ورقة بيانات تدعى «B12»، وفي حال المخالفة يتعرّض القطيع للحجز الجمركي.

التصدير.. حل الحكومة الوحيد

الرقة وإدلب، ومناطق عدّة من درعا والبادية السورية، آخرها مدينة تدمر، خرجت، إلى حين، عن سيطرة الدولة السورية. وهذه المناطق تمثل، بمعظمها، مصادر كانت ترفد الاقتصاد السوري بأجود أنواع غنم العواس، ما ترك آثاره الكارثيّة على هذا القطاع. فسقوط مدينة تدمر، مثلاً، بأيدي تنظيم «داعش»، خيّب أمل المهتمين بتحسين الأغنام الشامية الأصيلة، إذ أدّت خسارة المدينة إلى خروج ما يقارب مليون رأس غنم، كانت متوافرة في تدمر وريفها، من إحصائيات الاقتصاد الوطني. ومن اللافت جهل عامّة السوريين أن بلادهم تشغل المركز الأول في تربية هذا النوع من الأغنام، الذي يعد لحمه الأثمن بين لحوم الحيوانات في المنطقة. وتنتج سوريا 17 مليون رأس غنم سنوياً، ما يجعلها الأولى في الترتيب العالمي، فيما يأتي الكيان الصهيوني في المرتبة الثانية، بانتاج ما يقارب 9 ملايين رأس، الأمر الذي دعا إلى فتح مكتب العواس في دمشق، عام 2010، رغم مطالبات إسرائيلية بجعل مقر المكتب الإقليمي في تل أبيب. الإحصائيات السورية، منذ ذلك الوقت، ما عادت دقيقة، إذ يتوقع القيمون على الشأن الزراعي والحيواني أن البلاد خسرت ما بين 15 % و20 % من ثروتها الحيوانية، بسبب التهريب، الذي أضحى داء بلا دواء، في ظل الأزمة التي تسود البلاد، فيما رأت الحكومة السورية أنّ الحل الأمثل لخطر تهريب الغنم الشامي يتمثل بفتح باب التصدير، ما يضمن حق المربّي، بالحد الأدنى. وجرى السماح بتصدير 4 آلاف رأس من الأغنام الذكور، للتاجر الواحد، لمدّة سنة واحدة. ويجد المهتمّون أنّ هذه المحاولة، من الحكومة، مناسبة مؤقتاً، في ما يتعلق بخزينة الدولة السورية، لكنها لن تحمي المربين من الخسارة، في ظلّ جشع التجّار، وارتفاع الأسعار، وازدياد الطلب على لحم الغنم الشامي في العديد من الدول، على رأسها السعودية ولبنان والعراق.