نبرة الصوت وملامح الوجه وعلك العبارات واجترار الأفكار والأسئلة ذاتها، كلها تدفع المشاهد إلى تغيير القناة على عجل. لا علاقة للموقف السياسي بالأمر. متى كانت آخر مرة فاجأ فيها، مثلاً، النواب أحمد فتفت وعمار الحوري ونبيل نقولا وخالد زهرمان وفادي الهبر وعبد المجيد صالح وغيرهم، الجمهور بفكرة جديدة أو خبر يهمه، سواء في شأن أقساط المدارس، مثلاً، أو مافيا المقاولين والمصارف والمستشفيات، أو الأملاك البحرية والحدائق العامة والأشغال العامة والنقل العام والفساد في المجالس البلدية والإدارات العامة؟ بعضهم سيردّ بقائمة مشاريع القوانين التي وقّعها قبيل إرسالها للنوم في أدراج اللجان النيابية، والبعض الآخر سيقول إن ثمة تحاملاً عليه.
إلا أن القضية لا تتعلق بأشخاص معينين دون غيرهم. من سبق تعدادهم مجرد نماذج لعدم اهتمام سياسي عام بهذه «العناوين الثانوية»: يهمهم أكثر تسميع بيانات كتلهم وترداد مواقف زعمائهم.
العدد الأكبر من النواب لحقوا بزملائهم عصام صوايا وأمين وهبة وسبوح قلباكيان في الانتساب إلى نادي Zwein & Wanous للنواب «المتقاعدين». وهناك من أغرتهم تجربة نايلة تويني فاستبدلوا واجباتهم كنواب بكتابة مقال أسبوعي. وتكفي متابعة نشاط بعض النواب مثل هاني قبيسي وحكمت ديب ورياض رحال وروبير غانم (آخر خبر يعود إلى 8 نيسان 2014) وأحمد كرامي وإيلي ماروني على «فايسبوك» و»تويتر» لتكوين فكرة عن حجم لامبالاتهم بالجمهور: لا يتكبد هؤلاء عناء التغريد، ولو لنشر أغنية مثلاً. استقتال بعض النواب والوزراء للفوز بمواقعهم الحالية تحول، بسحر ساحر، إلى لامبالاة بهذه المواقع فور حصولهم عليها. عملياً، لم يكن أحد ينتظر شيئاً من الوزراء أليس شبطيني ورمزي جريج وعبد المطلب حناوي وسمير مقبل وأرتور نظريان أكثر من البقاء مستيقظين في مجلس الوزراء.

تحقيق إنجازات
صغيرة لا يحتاج إلى ميليشيا أو محور إقليمي أو زعامة أو ثروة مالية أو دعم الطائفة

إلا أن ما كان منتظراً من الياس أبو صعب وجبران باسيل وآلان حكيم وسجعان قزي أكثر بكثير مما حققوه. بعض نواب 2009، كنضال طعمة وخالد زهرمان وقاسم عبد العزيز وسامر سعادة وسامي الجميّل وناجي غاريوس وزياد أسود، يوحون بقدرتهم على تحقيق أكثر بكثير مما حققوه في السنوات الست الماضية. مع العلم أن مبررات هؤلاء جميعاً لأسباب خمولهم، تراوح بين الظروف السياسية والأوضاع الأمنية مروراً دائماً باستحالة التغيير وعبثية محاولات الإصلاح.
تبرير الاستسلام العام ليس صائباً. ففي مكاتب أخرى، هناك تجارب إيجابية. رئيس بلدية الدكوانة أنطوان شختورة، مثلاً، يجد يومياً «إنجازاً» جديداً يمكّنه تحقيقه من تسيير باصات عمومية بين أحياء بلدته وتجديد واجهات المباني وتوفير منح مدرسية للتلامذة ومحاولة توفير حركة ثقافية. وفي جبيل، رئيس للمجلس البلدي يدعى زياد حواط، ليس متمولاً كبيراً ولا يستند إلى دعم حزب لديه أربع أو خمس حقائب وزارية؛ هو مجرد شاب يسعى إلى تحقيق نجاح يومي، وتمكّن من حمل مدينته إلى العالمية، مثبتاً أن في إمكان المجالس البلدية فعل الكثير، مقارنة بما لم يفعله رئيس بلدية بيروت بلال حمد لبيروت مثلاً، ورئيس اتحاد بلديات كسروان نهاد نوفل لكسروان، ورئيس اتحاد بلديات جبيل فادي مارتينوس لجبيل؟ هناك من يتصرف مع المواقع التمثيلية بوصفها مجرد مناصب فخرية للوجاهة فقط. يمكن هنا المقارنة بين ما فعلته رئيسة بلدية بتغرين ميرنا المر للمتن طوال سنوات نومها في رئاسة اتحاد بلديات المتن وما فعله شختورة للدكوانة. كما تمكن مقارنة رؤساء المجالس البلدية بعضهم ببعض أو مقارنتهم بالنواب: ماذا فعل النائب سامي الجميّل لبكفيا (لا لكل المتن) مقارنة بما فعله الشختورة للدكوانة؟
الأساس هنا هو الشغف. في مجلسي النواب والوزراء نماذج إيجابية: للوهلة الأولى يبدو النائب إبراهيم كنعان مجرد مهووس بالظهور الإعلامي و»معجوق» بنفسه، إلا أن الإنصاف يقتضي تقدير جهوده في ظل لامبالاة غالبية الآخرين. فهو يسعى إلى تنظيم أمانة سر التيار وتفعيلها، ويعدّ الملف المالي تلو الآخر، و»يهلك» الإعلاميين بحديثه عن تعبيد طريق هنا وإضاءة زاروب هناك، ويتنقل من معراب إلى بكفيا مروراً بعين التينة لتحقيق اختراق سياسي ما. أما قوله لناخبيه إنه يفعل ما يفعل، فأفضل بكثير من قول الآخرين يومياً لناخبيهم لم ولن نفعل شيئاً. وزارياً، يتحدث وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس، بشغف استثنائي، عن استعدادات طرابلس لافتتاح حديقة عامة في الميناء، بعيد إشرافه على تأهيل ما كان يعرف بجزيرة البقر. وهو يثير الاستغراب بحماسته للحدائق العامة وتأهيل دور الحضانة وتشجيع تربية النحل والحمام على حساب أزمات اليمن وسيناء والصومال. زميله روني عريجي يراكم، هو الآخر، في «الثقافة» حركة غير مسبوقة، مخترعاً لوزارته بشغف بالغ حضوراً رغم إمكاناتها المعدومة. وبدوره، يثبت الوزير وائل أبو فاعور، بحرب «المواصفات المطابقة»، أن للوزير قدرة على تحقيق شيء بسيط في حال تمتعه بالشغف اللازم. حتى الوزير ميشال فرعون الذي كان يستحيل توفير مبرر منطقي واحد لانتخابه نائباً عن الأشرفية، تكشف حركته بقاعاً وشمالاً وجنوباً وفي جبل لبنان عن رشاقة يفتقدها كثيرون. كأن ما كان مطلوباً منذ البداية هو إراحته من التصاريح السياسية التي يتلعثم بتردادها وتكليفه بملف يهواه.
يبدو الأمر رومنسياً قليلاً، إلا أن مقارنة درباس وكنعان وحواط بالكثير من السياسيين يوحي بأن تحقيق إنجازات صغيرة تتعلق مباشرة بحياة المواطنين ليس مستحيلاً. ولا يحتاج الأمر إلى ميليشيا أو محور إقليمي أو زعامة أو ثروة مالية أو دعم الطائفة؛ كل المطلوب قليل من الشغف ورغبة كبيرة في النجاح.