لطالما شكلت قدرة لبنان على جذب العملات الصعبة جزءاً من تركيبته الاقتصادية الاجتماعية القائمة على تأمين قوة رفع لحكم زعماء الطوائف عبر النظام المصرفي. وأي بلد (عموماً) يعتمد معدلات الفوائد العالية ويتبنى سياسة السرية المصرفية من المقدّر له أن يعزز موجوداته من العملات الأجنبية وأن يحقّق وضعية جيدة أمام الخارج - ولو كان هذا السلوك على حساب الطبقة الوسطى المحلية.
ولكن قوة الجذب هذه فيها ضعف أيضاً، كونها تُحوّل البلد ذات النظام النقدي المرتهن للدولار، إلى كيان هشٍ مالياً وفقاً لما يشرحه خبراء البنك الدولي في تقريرهم الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي.
كان يُمكن أن يكون هذا التقرير بمثابة مراجعة اقتصادية تقليدية للنمو يغرف منها لبنان في البرامح الحوارية وفي الجلسات الوزراية: «النمو سيبقى ضعيفاً عند 2.5% جراء تراجع الثقة نتيجة الأحداث الأمنية المحيطة على الرغم من أن الهدوء المؤقت في جولات العنف وتسارع نمو النشاط الائتماني إضافة إلى تدفق اللاجئين، جميعها عوامل ساهمت في تعزيز الطلب الداخلي...»، الا أنّ حساسية هذا البلد على مستوى الوضعية المالية أمام الخارج. فهو أوهن بلدان العالم على الإطلاق على هذا الصعيد، وهذا معطى غير مشجع أبداً.
في المبدأ، هناك بلدان فقط في العالم يتخطى فيهما مؤشر الهشاشة إزاء العملات الأجنبية عتبة 100%، هما لبنان وكامبوديا، والأول يتفوق ببعض النقاط. ويعكس هذا المؤشر، وفقاً لخبراء البنك الدولي مدى احتمال أن تنتكس البلاد جراء انكشافها على العملات الأجنبية فهو يساوي مجموع الودائع بالعملات الأجنبية في النظام المصرفي على الاحتياطات الأجنبية الرسمية وأصول المصارف التجارية من العملات الأجنبية.

النمو سيبقى ضعيفاً عند
2.5% جراء تراجع الثقة نتيجة الأحداث الأمنية المحيطة
وهذا المؤشر مرتبط مباشرة بالانكشاف على العملات الأجنبية الذي يساوي الودائع الأجنبية في النظام المصرفي على الودائع الإجمالية؛ وهنا لبنان يُسجل ثاني أعلى معدل عالمياً، بعد البلد الآسيوي المذكور.
ويُمكن تصنيف مشكلة الهشاشة هذه في سياق عام يمر به العالم النامي. إذ يقول التقرير إن البلدان الناشئة تواجه حالتين من التحوّل. الأولى، هي السياسة النقدية التقييدية التي تعتمدها الولايات المتحدة حالياً - وترفع في إطارها معدل الفائدة - معطوفة على إجراءات توسعية تنفذها المصارف المركزية الأخرى في العالم. اذ «تؤدي هذه الحالة إلى ضعف عملات العديد من البلدان النامية أمام الدولار، وتحديداً تلك التي تعاني من ضعف معدلات النمو وارتفاع معدلات الهشاشة». ويوضح التقرير أنه «في بعض البلدان رفع هذا الأمر القلق من انكشاف موازنات (المصارف التجارية والبنك المركزي) التي تُشكّل الأصول المقوّمة بالدولار الأميركي جزءاً كبيراً منها»، وهذا ينطبق كلياً على وضعية اللبنانية.
أما حالة التحول الثانية التي تواجه البلدان النامية فهي أسعار النفط المنخفضة التي يبدو أن لها آثاراً سلبية تتضح على نحو متزايد، وذلك على الرغم من تسجيل الأسعار ارتفاعاً نسبياً خلال الربع الأول من عام 2015. يقول التقرير إن «مكاسب البلدان المستوردة للنفط جراء ذلك، كانت محدودة حتى الآن، على الرغم من أن تراجع الأسعار يساهم في خفض معدلات الهشاشة». أما في البلدان المصدرة للنفط فإن هذا النمط يُخفض بحدّة النشاط الاقتصادي ويزيد الضغوط النقدية والتضخمية.
ويبدو تشخيص البنك الدولي لحالة البلدان النامية على مستوى العالم كأنه مطرّز على قياس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تحوي جميع نماذج الأنظمة الاقتصادية التي يعرضها.
عموماً، يرى البنك الدولي أن مصير المنطقة خلال المدى المنظور يرتبط بالمستجدات على الصعيد الأمني وبالتطورات في سوق النفط. من جهة، من المتوقع أن تبقى البيئة الأمنية على هشاشتها في عام 2015 على أن تتحسن تدريجاً. مع العلم أن انخفاض النفط على نحو كبير كان «نكسة للبلدان المصدرة للنفط التي يعاني أغلبها من مخاطر أمنية»، وبخلاف الاعتقاد التقليدي فإن تراجع أسعار الطاقة «لم يرفع التوقعات حتى الآن في البلدان المستوردة» مع العلم أن «القيود الهيكلية القائمة منذ سنوات طويلة تمثّل عقبة مزمنة أمام تعزيز النمو في المنطقة».
مع تحسن الطلب الخارجي وتزايد الثقة في بعض البلدان من المتوقع أن يرتفع النمو بالمنطقة إلى 3.7% خلال عامي 2016 و2017. وأبرز البلدان المستفيدة هما مصر والأردن؛ ففي الأوّل، من المتوقع أن يساعد تزايد الاستقرار في تدعيم ثقة المستثمرين، ليرتفع معدل النمو إلى 4.3%، أما في البلد الثاني فستدعم الاستثمارات العامة في البنية التحتية معدل النمو الذي يُتوقع ان ينمو بنسبة 3.5%.

احتمال أن تؤدي الحرب إلى أضرار تلحق بالمنشآت النفطية أو توقف عمليات الإنتاج كلياً، ما يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع أسعار النفط


ولكن عموماً، يؤدي استمرار التحديات الأمنية وانخفاض أسعار النفط إلى فرض قيود على البلدان المصدرة للنفط وخفض متوسط معدل النمو إلى 1.1% عام 2015، ومع ارتفاع أسعار النفط تدريجاً، وتحسن معطيات البيئة الخارجية من المتوقع أن يرتفع النمو في تلك البلدان إلى 3.3% عامي 2016 و2017.
سيكون لتراجع أسعار النفط آثار قوية على المراكز المالية والخارجية في كل من البلدان المصدرة والمستوردة للنفط. فالمصدرون سيقيدون الإنفاق في محاولة لتعويض الهبوط الحاد في العائدات النفطية، في حين أن المستوردين سيسجلون تراجعاً في العجز مع انخفاض دعم الوقود.
هكذا تتمثّل المخاطر التي تواجه بلدان المنطقة بتصاعد حدة الصراعات الاجتماعية القائمة، وتقلبات أسعار النفط. وهنا يحذّر البنك من أن «القتال الذي يتزايد حدة قد ينتشر عبر الحدود»، ويُشير تحديداً إلى احتمال أن تؤدي الحرب إلى «أضرار تلحق بالمنشآت النفطية أو توقف عمليات الإنتاج» كلياً، ما يؤدي تلقائياً إلى «ارتفاع أسعار النفط».
أما الأخطر من كل هذا لبلد مثل لبنان هو تحذير البنك الدولي بأن «انتشار أعمال العنف قد يعطل أو يوقف وسائل النقل الحيوية للبلدان ذات الاقتصاد الصغير المفتوح بالمنطقة». هذا يعني أنه في إطار سيناريو متشائم فإن البلاد قد تتكبّل على مستوى قطاع النقل الذي يُشكّل شرياناً حيوياً لنشاطها الاقتصادي إن كان على صعيد نقل البضائع أم الأشخاص.
وتشمل المخاطر المحيطة بالمنطقة أيضاً، ارتفاع الضغوط الخارجية على موازنات البلدان المصدرة للنفط جراء هبوط أسعار النفط في حين أن المكاسب في البلدان المستوردة على صعيد النمو ستقيدها العوائق الهيكلية.
يبقى أن ما تترقبه المنطقة من توقيع اتفاق نهائي بين المجتمع الدولي وإيران قد يؤمن القواعد لاستقرار أشمل، وتحديداً لهذا البلد النفطي الذي من المتوقع أن ينمو اقتصاده بمعدلات تتجاوز 6% عامي 2016 و2017.