في العام 2011، كانت لدى الخبراء الروس المعطيات شبه الكاملة عن المخطط الأميركي ـــــ الخليجي ـــــ التركي، ومراحل العدوان الإرهابي على سوريا. وكانت نصيحتهم للمسؤولين السوريين تسليح المدنيين في مواجهة الإرهاب. لم تأخذ دمشق بالنصيحة؛ كانت هناك الثقة السورية التقليدية بإمكان استيعاب التطورات وحسم المواجهة، سريعاً، بمزيج من الوسائل الدبلوماسية والأمنية. كذلك، كانت هناك مخاوف من اتساع نطاق انتشار السلاح.
وفي الواقع، لم تكن لدى الدولة السورية، وقتذاك، آليات منظمة كفوءة لتسليح المدنيين؛ فقد كان حزب البعث قد وصل مرحلة الترهّل، وجماهير القاعدة الاجتماعية للدولة في حالة استرخاء وضياع فكري سياسي، تحت تأثير مفاعيل اقتصاد السوق، ولم تكن هناك أي تعبئة.
الأرجح أن المسؤولين السوريين لم يأخذوا، حينها، معطيات المؤامرة التي كشفها لهم الروس على محمل الجدّ، واستمروا يعملون وفق الآليات القديمة نفسها؛ فركّزوا على الرد الإعلامي، وعلى حشد جماهير الدولة في مسيرات موالية، أضخم من تلك المعارضة. لكن هذه الأخيرة، لم تكن، حسب المخطط المعادي، سوى مرحلة عابرة تمهّد لمرحلة السلاح والإرهاب. وكان ينبغي، بالطبع، التحضير لها بتنظيم وتسليح الجماهير الموالية، مسبقاً. ولم يحدث هذا. وبالنتيجة، جرى إغراق المجتمعات المحلية بالسلاح والأموال وعملاء المخابرات الأجانب والإرهابيين الذين بدأوا بالتدفق، بلا حساب. ولم يكن ممكناً وقفهم بالوسائل الأمنية والعسكرية التقليدية. هذا ما حدث لسوء الحظ، ونتج عنه إضعاف الموالين في المجتمعات المحلية لحساب المعارضين فالإرهابيين، ووقوع الفئات الاجتماعية المؤيدة للدولة، ضحية المذابح الإجرامية والاضطهاد والتهجير.
تدهورت موازين القوى لصالح قوى العدوان، في العام 2012، بحيث أصبح الجيش السوري مضطراً لمعالجة الوضع بنفسه، وبدأ بخوض المعارك التي تواصلت، أكثر عنفاً، مع تزايد أعداد الإرهابيين، وحصولهم على أسلحة ثقيلة ونوعية وموارد مالية واقتصادية ضخمة.
جرى، لاحقاً، اطلاق قوات دفاع رديفة للجيش، وكتائب البعث، ومقاتلي الحزب السوري القومي الاجتماعي ومجموعات محلية أخرى، لكن استراتيجية تسليح المجتمعات المحلية ظلت معلّقة، ومشكوكا فيها، حتى بعد مآسي المذابح الإرهابية في عدة مواقع موالية.
ما ينبغي الاعتراف به، اليوم، أن أجهزة الدولة السورية بقيت تعمل، في زمن الحرب، على نحو تقليدي، ولم تقم بالمهمات الواجبة من التعبئة والتنظيم والتسليح لقواها الاجتماعية والجماهيرية؛ في حين كان العدو، ولا يزال، يعبئ كل قواه داخل سوريا وخارجها، إعلامياً وسياسياً وبشرياً وتنظيمياً... الخ. وقد كشفت التطورات الأخيرة في جنوب سوريا هذا الواقع بلا رتوش؛ فقد تبيّن أن القلعة الاجتماعية للدولة السورية في جبل العرب لم تكن معبأة، سياسياً وتنظيمياً، ولا مجهزة، ذاتياً، لمواجهة التحدي الإرهابي.
في 4 آذار الماضي، كتبتُ في «الأخبار»، وفقاً لمعطيات موثوقة وردتني، حول «لغز السويداء»، ما يلي: «إن الحلقة التحالفية بين الأطراف المعنية حول جبل العرب، مكتملة الأركان: وليد جنبلاط، «النصرة»، السعودية، إسرائيل، والحزب الإسرائيلي في الأردن. باختصار، هناك ما ينبغي القيام به لتحصين السويداء، سياسياً وعسكرياً وأمنياً».
كان واضحاً، لدى دوائر عديدة، أن هناك اختراقات سياسية لجبل العرب يشغّلها التحالف المعادي لسوريا، عبر وليد جنبلاط وعمّان. ومع ذلك، لم تُتخذ أي خطوة فعالة للتصدي السياسي لتلك الاختراقات على الأرض، رغم أنها الأخطر؛ فهي تقع في سياق إعادة رسم الخريطة السياسية السورية. كان سؤالنا هو: «هل الحزام الأمني المأمول، إسرائيلياً، مع سوريا، ممكن، استراتيجياً، من خلال جماعات إرهابية مهددة المصير، ومن دون قاعدة اجتماعية راسخة كـ «النصرة» وأخواتها، أم من خلال ترتيبات سياسية ــــ أمنية متجذّرة، مدعومة بإمارة انفصالية يحلم بها وليد بك؟». وقد تبين، بعد ثلاثة أشهر من طرح هذا السؤال، أن الخطة المعادية، وأطرافها التنفيذية (تل أبيب وعمان والمختارة) تتجه صوب الخيار الدرزي لإيجاد قاعدة اجتماعية راسخة لتفكيك الجنوب السوري وبناء منطقة أمنية عازلة لصالح إسرائيل.
المحاولة الجنبلاطية ــــ الإسرائيلية، تهيًّأت بسبب غياب التعبئة السياسية والتسليح الشعبي في جبل العرب، ولكنها تراجعت بفضل «فزعة» بني معروف الوطنية العروبية، وتجاوب الحكومة السورية مع مطلب تسليح المدنيين، وفتح باب التجنيد لأبناء الجبل للخدمة العسكرية في مناطقهم.
«فزعة» السويداء ينبغي تعميمها، الآن، على كل المناطق والفئات الاجتماعية الأخرى، بمبادرة شاملة لأجهزة الدولة، لكي تتحول إلى «فزعة» وطنية، سواء في إعلان المواقف السياسية، أم في التحشيد الميداني.
خطوة صغيرة في هذا الاتجاه، أثبتت فعالية المشاركة السياسية الشعبية في الصراع المحتدم حول سوريا، محلياً وإقليمياً ودولياً؛ فمجرد اجتماع وبيان لشيوخ العشائر السورية، الجمعة، في دمشق، وجه ضربة معنوية جدية للمشروع الهاشمي بتسليح أبناء تلك العشائر على أساس مذهبي وانفصالي. وقوة البيان العشائري ظهرت في استقلالية وأصالة لغته المتوازنة، وفي تصريحات الشيوخ، الرزينة، التي لم تكرر الكليشيهات المتداولة في الإعلام الرسمي، مما جعل نشرها حتى في الإعلام الأردني نفسه، ممكناً، وبالتالي مؤثراً على الرأي العام في المملكة.
في الاتجاه نفسه، يمكن أن تكون خطوة تأسيس لواء «درع الجزيرة السورية» فعّالة، سياسياً وميدانياً، بقدرما ما تكون مبادرة جدية لتوحيد العشائر العربية الجزيرية السورية والفئات الحليفة للدولة، في تنظيم اجتماعي مسلح، مجهّز ومدعّم وذاتي الحركة، وقادر، بالتالي، على صدّ الإرهابيين، من جهة، وإحداث توازن مع «وحدات حماية الشعب» الكردية، من جهة أخرى.
العشائر ليست بنى جامدة، سياسياً، موالية أو معارضة، راكدة أو فعالة؛ إنما هي مجال اجتماعي ــــ سياسي للمبادرة السياسية والتنظيمية، القادرة على دمجها في قوة خاصة، أصيلة وديناميكية، في السياسة والميدان.
لتحقيق الانتصار، ليس هناك بديل عن تعبئة الجماهير، وتنظيمها، وتسليحها، وتخويلها حق الدفاع الذاتي عن مناطقها... ولا تخافوا من الشعب؛ فلولا التفاف الأغلبية السورية حول خيار الدولة الوطنية، لسقطت وتفككت، منذ العام 2011.