تضاربت الآراء حول ما ستؤول اليه نتائج الانتخابات البرلمانية التركية التي أجريت في 7 حزيران الماضي، فالبعض توقع حصول الرئيس رجب طيب اردوغان على العدد الكافي من المقاعد الذي يتيح له تعديل الدستور ويجعل النظام التركي رئاسياً أو على الاقل سيحظى باكثرية تسمح له باجراء استفتاء شعبي حول هذا الموضوع، وآخرون شككوا في ذلك. ولكن النتيجة أظهرت انه فشل في تحقيق طموحاته. تختلف التحليلات الصحافية حول اسباب هذا الفشل، ولكن اكثرها يعيده الى صعود نجم «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي الذي نال نسبة 13 في المئة من الاصوات منفرداً. ولكن من المفيد أيضاً الإدراك بأن مثقفين وباحثين اتراكاً، بارزين توقعوا حدوث هذا الوضع نتيجة لتحليلات اكاديمية قاموا بها في الفترة الاخيرة.
وبين هؤلاء احمد انسل، عميد كلية الاقتصاد السابق في جامعة غالاتاساراي التركية، ونائب رئيس جامعة باريس الاولى (انثيون- سوربون) والمشرف على مراكز ابحاث دولية وتركية في الشأن التركي، ومؤلف كتاب صدر بالفرنسية في الاسابيع الماضية (قبل الانتخابات التركية) بعنوان: «تركيا اردوغان الجديدة: من حلم الديمقراطية الى حلم الاتوقراطية». وقد صدر الكتاب عن دار «لاديكوفيرت» الفرنسية.
من الافضل لقادة تركيا الحاليين الانفتاح مجدداً نحو الاتحاد الاوروبي والعالم

يؤكد احمد انسل في مقدمة كتابه ان هدفه توضيح الاسباب التي ادّت الى صعود «حزب العدالة والتنمية» الى صدارة الخريطة السياسية التركية في وقت لم يتوقع المراقبون وصول حزب ذي صبغة اسلامية سياسية الى هذا الموقع، علماً ان قيادات الحزب يطلقون على حزبهم صفة الحزب الديمقراطي المحافظ.
ويتساءل انسل اذا كان حزب اردوغان استخدم هذا المفهوم الديمقراطي ليحقق مشروعه الحقيقي، ألا وهو أسلَمَة المجتمع والدولة التركيين. وهل كان الحزب مؤمناً فعلاً بالديمقراطية أو أنه كان وما زال حزباً شعبوياً يستخدم اي آلية لتحقيق النجاح ويبدّل مواقفه بحسب متطلبات الحقبات المختلفة؟ كما يطرح انسل سؤالاً حول اذا كان نجاح اردوغان مرتبطاً بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي خطّط ويخطّط له المحافظون الجدد في اميركا.
اهم ثلاثة فصول في كتاب انسل، بالنسبة لعلاقة تركيا بالعالم العربي، هي الفصول 6،7 و9.
في الفصل السادس، يتحدث انسل عن السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية خلال فترة تولي رئيس الحكومة الحالي احمد داوود اوغلو وزارة الخارجية. كان داوود اوغلو، بحسب الكاتب، ينفذ مشيئة اردوغان التي رغبت بان تعود تركيا الى لعب دور رئيسي في شؤون العالم العربي لتصبح كما كانت خلال السلطنة العثمانية، وأن تكون احدى القوى الرئيسيه في قرارات المنطقة.
وقد اعتمد اردوغان في سياسته الخارجية مبدأ التقارب من النظام السوري (في البداية)، وخصوصاً بعد طرد سورية لزعيم «حزب العمال الكردستاني» (PKK) عبد الله اوجلان من الاراضي السورية في عام 1998، ووُقعت اتفاقيات تعاون حدودي عام 2007، بعد تحسّن كبير في علاقات الدولتين منذ عام 2005. وفي عام 2009، لم يعد مواطنو البلدين بحاجة لتأشيرة للانتقال بين بلديهما، وأُنشى مجلس تعاون استراتيجي تحت ادارة رئيسي الوزراء وتمّ تبادل الزيارات الودّية بين مسؤولي البلدين الكبار.
وكل ذلك بهدف توثيق الروابط الاقتصادية والسياسية واعادة ترطيب الاجواء بعد توترها اثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، عام 2005، الذي كان صديقاً لتركيا ولديه مصالح متبادلة معها. وتمنّت تركيا الرسمية آنذاك ان تشكل علاقتها الجيّدة بسورية نموذجاً لعلاقات جيّدة مع الدول العربية الاخرى، حسب الكاتب.
كما اتخذّت تركيا موقعاً شاجباً للاعتداء العسكري الاسرائيلي على غزة، عام 2008، وحاولت بالتعاون مع سورية الضغط سياسياً على اسرائيل لوقف هذه العملية. كما انسحب اردوغان من لقاء مع شيمون بيريز في مؤتمر دافوس بسبب اعتداءات اسرائيل على غزة، وارتفعت شعبية الزعيم التركي في الشوارع العربية بسبب هذه المواقف، دائماً بحسب الكتاب.
ومنذ انطلاق الانتفاضات العربية في عدد من البلدان العربية في عام 2011 شعر اردوغان، حسب الكتاب، انه باستطاعته تطوير دوره كزعيم اقليمي ودولي، فلم يعدّ مكترثاً للانتساب الى الاتحاد الاوروبي الى الدرجة التي كان يهمّه هذا الامر تجاهه سابقاً. وصار يتنقل بين عاصمة عربية واخرى ويلقي الخطابات المؤيّدة للثورات. والقى خطاباً في القاهرة هاجم فيه العلمانية، وأيدّ نجاح «الاخوان المسلمين» في التوصل الى انتخاب الرئيس محمد مرسي رئيساً للجمهورية في حزيران 2012، ودعم الاحزاب المتعاطفة مع الاخوان في تونس وليبيا. وساهم في التدخل العسكري في ليبيا الذي اطاح بالعقيد معمر القذافي وبنظامه، وانفتح نحو دول العالم الثالث القوية اقتصاديا (دول البريكس). ثم اختار اتخاذ موقف يسعى لقلب النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الاسد من دون ان يجمّد أو يقطع علاقاته العادية مع النظام الايراني.
غير ان اردوغان، وفي زيارته الرسمية الى الولايات المتحدة في ايار (مايو) 2013، لم ينجح في اقناع الرئيس باراك اوباما بدعم سياساته كلياً في سورية. وابلغه اوباما ان الحل في سورية يتطلب مشاركة روسية على طاولة المفاوضات. كما تحفّظ اوباما، في هذا اللقاء حول دعم تركيا الرسمية لبعض المنظمات الجهادية وعملياتها الميدانية ضدّ الاقليات الدينية والاثنية، في سورية والعراق.
ولم يدرك اردوغان اهمية هذه التحفظات، ولعله دفع ثمنها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
وبعد عودة اردوغان من اميركا بشهر واحد فقط، حصل تغيير شبه انقلابي في النظام المصري وسقط نظام الرئيس السابق محمد مرسي وحلفائه الاخوان المسلمون واصبحوا يخضعون للمحاكمة. وهنا بدأت مرحلة نجاح اردوغان الاقليمي بالتبخّر تدريجياً الى ان واجهت صدمة الانتخابات التشريعية الاخيرة.
ومع ان اردوغان حاول اعادة ترميم علاقاته مع اكراد تركيا، حسب الكتاب، في الفترة السابقة للانتخابات لاستعادة علاقة مقبولة معهم، وقرر السماح لنواب اتراك حياديين بمقابلة عبد الله اوجلان في سجنه والتفاوض معه. كما سمح أيضاً لمسؤولي الاستخبارات التركية بالتفاوض مع اوجلان ولكن كل ما حققه كان تخفيف حدّة العمليات العسكرية الكردية ضد النظام التركي في تركيا. بيد ان استمرار اردوغان بدعم الجهاديين (داعش واخواته) في سورية والعراق وانفضاح عمليات التسليح التركي المخابراتي الرسمي لهذه المنظمات، ساهم في دفع الاكراد في تركيا الى الاستمرار بالترشح ككتلة مستقلة ومنفصلة، ولم تنل هذه الكتلة اصوات الاكراد الاتراك فقط، بل أيّدتها احزاب ومجموعات اخرى رغبت بقصّ جوانح «حزب العدالة والتنمية» بقيادة اردوغان وعدم تحوّله الى رئيس ذي سلطة مطلقة ومنع تقليصه لدور البرلمان التركي وعدم فرضه نظاماً شعبوياً يحكمه ما يشبه السلطان العثماني، حسب المؤلف.
ولعل الامر الذي دفع اردوغان الى تغيير سياسته، وربما اكثر من أي عامل آخر، كان خوفه من ان يمتدّ نفوذ حزب عبد الله اوجلان (PKK) الذي يطالب بإقليم كردي مستقل، على شاكلة اقليم كردستان في العراق (بين جنوب تركيا وشمال سورية تمهيداً لنشوء الدولة الكردية).
الآن، وحسب المراقبين، تُواجه تركيا بقيادة اردوغان خيارات مصيرية، فإما أن تعيد الانتخابات الاشتراعية بعد شهر ونصف الشهر، والدستور التركي يسمح لها بذلك، وإما ان ينقسم «حزب العدالة والتنمية» بين فرع مؤيد لسياسات اردوغان وفرع آخر معارض للتحول نحو النظام الرئاسي والزعيم الاوحد، أو قد ينجح اردوغان، بقدراته وحنكته السياسية في تبديل المواقف (كما فعل سابقاً مراراً) في التحالف مع أحد أحزاب المعارضة.
بيد أن مشروع الهيمنة الاردوغانية داخلياً وخارجياً، بدأ بفقد بريقه، حسب الكتاب، بسبب عدم تقدير أردوغان لخطورة تحدّي وتحفظ الدول الكبرى ومواقفها، وعلى رأسها اميركا وروسيا والصين لسياساته. وهذه الدول لم ولن تسمح بعودة السلطة العثمانية ولا ما يشابهها في تركيا مما يضرّ بمصالحها في المنطقة ومما قد يهدّد الاستقرار الداخلي لهذه الدول.
وربما من الافضل لقادة تركيا الحاليين، حسب المؤلف، العودة الى ادراك حجمهم والانفتاح مجدداً نحو الاتحاد الاوروبي والعالم والدول القوية والفاعلة في الشرق الاوسط، من دون محاولة الهيمنة والديكتاتورية ودغدغة المشاعر الدينية للطبقات المتوسطة والفقيرة، في وقت تُرتكَب فيه المجازر باسم الاسلام والدولة الاسلامية ضد الاقليات.
كما على تركيا، «ان تنظر الى قضية الاكراد وحقوقهم بواقعية، وألا يعتقد اردوغان وحزبه انه بامكانهما استخدام الاكراد لمصالحهما ومشاريعهما فقط، بعد الآن».
*صحافي لبناني