كثر الحديث أخيراً عن سيناريو الاستطلاع الرئاسي. بعض الكلام قريب من حقيقته. بعضه الآخر تحليلات وتخيلات. وسط التسميات المختلفة حيال الموضوع، يبدو ضرورياً وضع الأمور في نصابها الحقيقي والدقيق. انطلقت فكرة الاستطلاع الرئاسي للمسيحيين، عند تقدم مشروع زيارة سمير جعجع إلى الرابية. يومها، أواخر أيار، بات محسوماً أن سيد معراب سيحط فجأة في منزل عون. غير أن الأخير كان يريد موقفاً رئاسياً ملموساً من ضيفه المفاجئ.
فيما جعجع كان يملك قراءة مطولة متشعبة لا تخلو من الحجة، يخلص في نهايتها إلى استحالة أن يعلن موقفاً رئاسياً واضحاً الآن. بين ما يشبه الاستحالتين، ولد مخرج الاستطلاع. كان عون قد طرحه كبند من ضمن أربعة شكلت مضمون موقفه الرئاسي في مؤتمره الصحافي الأخير. وافق جعجع على الفكرة كوسيلة لإتمام الزيارة. يصل إلى الرابية. لا يقول أنه مع الجنرال رئيساً. ولا يسكت عن موضوع الرئيس كلياً. خصوصاً أن وثيقة إعلان النوايا بين الرجلين، تنص بوضوح على مبدأ الرئيس القوي في بيئته. فصار الاتفاق على أن يعلن جعجع من الرابية أنه «لا يمانع في حصول استطلاع مسيحي» ما.
غير أن التطورات التي تلت زيارة 2 حزيران تلك، لم تلبث أن رسخت الفكرة وبلورت المبادرة. ذلك أن عون وجعجع استذكرا ــــ كل بمفرده ــــ المنطلقات التي تجمعهما حيال الاستحقاق الرئاسي المطروح. أولها أن الاثنين يعتبران شرعية المجلس النيابي «معتورة». خصوصاً بعد تمديدين غير دستوريين لولايته. وعلى قاعدة أن هذا المجلس لم يُنتخب أصلاً على أساس قانون انتخابي ميثاقي عادل منصف ومتزن. ولم يكن مقدراً لنوابه أن ينتخبوا الرئيس المقبل في كل الأحوال. ذلك أن ولايتهم كانت تنتهي قبل الاستحقاق الرئاسي بسنة كاملة. ثانياً، أن المأزق الداخلي بات محكماً وموصداً بشكل قصرت معه كل السبل والوسائل في محاولة خرقه. فيما الأزمة الإقليمية المحيطة بنا تنذر بالاستمرار أعواماً. وهو ما يجعل من الجنون الرهان على أي من تطوراتها أو الركون إلى قراءة مؤدياتها. ثالثاً، أن الرجلين أدركا، بالتجربة والخطأ، بالعلن والسر، بالمقول والمكتوم، أن ثمة من لا يريد لشراكة لبنانية حقيقية أن تقوم في البلد. هناك من لا يريد أن يعطيهما ــــ منفردين أو معاً ــــ حاجباً في مديرية. فكيف برئيس رئيس لجمهورية جمهورية؟!
من هذه المنطلقات تطورت أكثر لدى الرجلين فكرة الاستطلاع. لم تعد مجرد مخرج لإتمام زيارة حصلت. راحت تتبلور باتجاه طرح يمكن أن يحدث ثغرة. أو محاولة تستحق التجربة وسط انسداد كل الآفاق والمستويات في الداخل والخارج. عندها، انتقلت فكرة الاستطلاع من العبارة اللفظية على باب الرابية، إلى المشروع الخطي والحسابي والرقمي والعلمي، في كل من معراب والرابية وبنشعي وبكركي وغيرها من مقرات القوى والجهات المعنية. فبدأت تتضح الفكرة وتتحول عينات وآليات ومساراً تجسيدياً، من الاستمارة إلى الرئاسة.
عند هذا الحد، بدأ يتضح المؤدى النهائي لكل العملية. وبدأ يتأكد لأصحاب المشروع أنهم سيكونون بين صيغتين له. لكن كلاً منهما تحتاج إلى لمسات نهائية لتتحول عملية تنفيذية. في الصيغتين، يقضي الأمر إجراء استطلاع لعينة مسيحية واسعة جداً، وبمشاركة أكثر من جهة منظمة أو أكثر من شركة استطلاع يوافق المعنيون على اعتمادها. لكن في صيغة أولى مقترحة، يُجرى الاستطلاع باستمارة مفتوحة، تترك للمستطلعين تحديد الأسماء التي يؤيدونها لرئاسة الجمهورية. على أن يكون المعنيون قد تعهدوا مسبقاً، وبشكل واضح وجلي، القبول بالنتائج. أي تزكية الشخص الذي تظهره الاستطلاعات حائزاً على أعلى نسبة من التأييد المسيحي. على أن يلي ذلك، تعهد الجميع بانتخابه مرشحاً وحيداً في المجلس النيابي الممدد له. بحيث يكون الأمر موازياً لدوحة لبنانية. أي تكرار تجربة العام 2008، لكن من دون مطبات ذلك الاستحقاق الثلاثة: أولاً من دون انتظار وقوع الدم لملء الشغور. ثانياً من دون اللجوء إلى قوى خارجية وصية على لبنان لتسمية رئيسه عبر مرشح يتيم. بل الاحتكام إلى ناسه في اختيار المرشح الأقوى المستحق. وثالثاً، عدم الوقوع في موبقة الدوحة لجهة انتهاك الدستور اللبناني وانتخاب شخص غير مؤهل دستورياً لذلك. هكذا، يمكن للاستطلاع بهذه الصيغة أن يجنب البلاد منزلقات العام 2008، وأن يؤمن الحل الأفضل الآن وهنا.
أما الصيغة الثانية فأن يصاغ الاستطلاع بشكل يسمح باختيار مرشحين اثنين، هما الأكثر حيازة للتأييد المسيحي. على أن يذهبا إلى المجلس النيابي، في جلسة يلتزم فيها القطبان المرشحان، ويتعهدان إلزام حلفائهما، ما أمكنهما الإلزام والالتزام، بعدم الاقتراع لأي مرشح ثالث غيرهما. غير أن هذه الصيغة تظل مفتوحة على احتمال العرقلة. ذلك أنه على قاعدة أن الدستور لا يمكن أن يمنع أي شخص من الترشح، أو أن يفرض على أي نائب كيفية اقتراعه، وعلى قاعدة أنه في أدنى الاحتمالات، لا يمكن لهذه الصيغة أن تلغي الاقتراع بورقة بيضاء مثلاً، ما يعني أنه يمكن لاتفاق مسيحي شامل كهذا، أن يصل إلى المجلس وألا يبلغ الانتخاب. بحيث يتنافس المرشحان ولا يحوز أي منهما 65 صوتاً ضرورية للفوز دستورياً. وهو ما يقتضي التحسب له مسبقاً. والتحسب الوحيد الممكن، أن يقوم المعنيون بالمشروع بالاتفاق على شرعة أخلاقية، تكون بكركي جزءاً منها راعية وضامنة ومنفذة لمفاعيلها. شرعة تقول بأن المرشحين اللذين يزكيهما الاستطلاع، يتنافسان في دورة اقتراع واحدة. بعدها ينسحب الحائز عدداً أقل من الأصوات لمنافسه. حتى لا يتعطل الاتفاق، وكي لا يتحول مطية لتهريبة رئاسية ممكنة في أي لحظة لاحقة، بحجة المأزق أو حرية نواب الأمة.
عند هذه المعضلات بلغت الأمور ووصل التفكير. لكن الأكيد أن الفكرة تستحق التجربة، وهي الأقرب زمنياً على الأقل إلى تحقيق الحل المفقود.