في مُحرِّكات البحث لتفسير واقعنا الحاليّ، تتعطل مُتصفّحات المجاهر السياسيّة، والاجتماعيّة بل تعجز عن تفسير اتجاهاتنا، في الحُصول على النتائج المطلوبة، ذلك بمجرد أن تدخل الكلمة المُكوَّنة من أربع أحرُف (دولة) حتى تدخل المتاهة العظيمة؛ بحثاً عن الحقيقة لتلك الوعكة السياسيّة المُستديمة. ولهذا لن تجني في هذا البحث غير نقيق الضفادع وصراخ العنتريات، ومواسم المراهقة السياسية.فهل يُمكِن أن نتخيَّل أننا نعيش عصر ما قبل المُجتمَعات - كما يراه هوبز- ونحن نقف على أعتاب «اللفياثان الجديد»، أم عصر ما قبل الدولة، أم عصر ما بعد الدولة؟

عُموماً استقبل النظام العالميّ لاعبيه الجُدُد «الفواعل»، أو «اللاعبين»، أو «المُمثّلين» في العلاقات الدوليّة؛ ليُزيح المُتسيِّد التاريخيَّ (الدولة) في السياستين الإقليميّة، والعالميّة؛ بفعل القرين العولميّ، وأفول السيادة؛ لتُؤدِّي أحياناً دور الوسيط بين المُجتمَع والدولة.
ظاهرة تشكيل جُيوش رديفة للجُيوش النظاميّة ليست وليدة اليوم

ويبدو أنَّ مسارات الكوكبة العالميّة باتجاه تحييد دور الدولة، وفقدان احتكارها القوميّ مُسايرة لأجيالها الخلدونيّة في مراحلها الأخيرة، المنطقة التي دخلت مرحلة يكون فيها دور اللاعبين الخارجيِّين ذا أثر محدود في حين تزداد أهمّيّة القوى المحليّة حتى تُصبح الفواعل من غير الدول (Non – State Actor) التي رسمها ريتشارد هاس، وصعود أنماط القوى الإقليميّة، والمُنظَّمات الدوليّة، والإقليميّة، والمُنظّمات الوظيفيّة، ووسائل الإعلام العالميّة، والشركات المُتعدِّدة الجنسيّات، ومُنظمات مثل حزب الله وحماس؛ لذا يحقّ تسميته قرن الفاعلين من غير الدول.
أمّا لوحة المُستقبَل المقبلة فلن تختفي فيها مُجسَّمات الدول، ولكنها رُبّما تميل أكثر إلى انتشار أوسع لدور اللاعبين في قواعد اللعبة، والاشتباك، وموازين القوى، وبحسب بعض التقارير الأميركيّة أنه بحُلول عام 2025 لن يكون بإمكاننا حينها التعرُّف إلى ملامح النظام العالميّ، وإن كان هنري كيسنجر قد طرح في كتابه الأخير (WORLD ORDER) إنَّ الصراع بين العودة إلى ما قبل وستفاليا، وشكل الدولة القوميّة الحديثة حتى وإن كان هذا النظام الدوليّ الجديد مُهيَّأً للفوضى التي تختفي فيه القوى المُهيمِنة، أو السلطويّة (Hierarchy).
وإذا كانت القاعدة، وأخواتها هي نماذج من تلك الفواعل من غير الدول المُؤثِّرة في السياسات الداخليّة، والخارجيّة للدول، وبدأت تتجاوز مفاهيم الدولة الافتراضيّة على حدِّ رُؤى توماس فريدمان، وأصبح الكيان الهجين الذي لا يعترف بمنطق الجغرافية الأرضيّة (داعش وأخواته) اللاعب المُؤثر في خريطة المنطقة، فجماعة «بوكو حرام» تسعى لتقويض سلطة نيجيريا الدولة الأهمّ في اقتصاد أفريقيا، و»حركة الشباب» في الصومال، و»داعش» في العراق وسورية أصبح يُمثِّل الامتداد للإرهاب المُعولم من 62 دولة من كلِّ قارّات العالم. وحين تكون المُواجَهة حاسمة مع تلك التنظيمات لا بدَّ له من نِدّ يُجابهه، ويكون فاعلاً بمُستواه، فكان سلاح الضدّ النوعيّ والكميّ مشروع الحشد الشعبيِّ في العراق الذي انطلق من أرضيّة عراقيّة، عقائديّة، واتسع ليكون الجيش الرديف لمُواجَهة عصابات هذا التنظيم عبر قوات عسكريّة مُتكوِّنة من المُتطوِّعين المَدَنيِّين، وعدد من الفصائل التي تنتمي إلى بعض القوى العراقيّة إذ يبلغ عدد مُتطوِّعي التشكيل أكثر من 100000 ألف مُقاتِل علاوة على 30000 مُقاتِل مُرتبط بوزارة الدفاع، وإن كان الأعمّ الأغلب من المُشاركين فيها من الفصائل، والمُتطوِّعين من الشيعة؛ إثر فتوى المرجعيّة الشيعيّة في النجف؛ ولأنَّ الشيعة هم الغالبيّة الديمغرافيّة لكنها ضمّت أيضاً عشائر، ومُتطوِّعين من سُنّة العراق. على سبيل المثال: من محافظة الأنبار 4747 مُتطوِّعاً، ومن صلاح الدين 4896 مُتطوِّعاً، ومن أهالي الموصل 3570 مُتطوِّعاً، ولم يقتصر الحشد الشعبيُّ على الشيعة والسُنّة فقد ضمَّ 500 مُقاتِل من المسيحيِّين، و800 مُتطوِّع من الشَبَك، وأكثر من 3520 مُتطوِّعاً من
التركمان.
تحوّل الحشد الشعبيِّ إلى فاعل مُؤثر على المُستوى الإقليميِّ، والدوليِّ؛ لأنّه تجربة استطاعت تغيير المُعادَلة على الأرض العراقيّة، وأصبح اليوم -بفضل السواعد العراقيّة، والمُساعَدة الاستشاريّة الإيرانيّة، واللبنانيّة- الفاعل الإقليميَّ المُؤثر في سياسات المنطقة، بل في مُستقبَل العراق، والتوازنات في المنطقة باتجاه الحشد الإقليميّ.
ولأنَّ الفواعل من غير الدول تعني ظهور جماعات، أو تشكيلات مُنظمة تقوم بوظائف كانت جزءاً من اختصاص الدولة سواء النظام، أم الأمن فإنَّ الحشد الشعبيَّ اليوم يُشكل جيشاً رديفاً للجيش العراقيّ، ومُعالَجة للإشكاليّات التي تعرَّضت لها المُؤسَّسة الأمنيّة في العراق عقب 2003.
على أيّة حال فإنَّ ظاهرة تشكيل جُيوش رديفة للجُيوش النظاميّة ليست وليدة اليوم، ومَن يُطالِع عجلة تاريخ العالم يجد أنَّ محطاتها سبق أن عاشت تجربة الجُيوش الرديفة بمُسمَّيات مُختلِفة، لكنها تحمل اسماً ومعنى واحداً بأبعاد مُختلِفة في الحالات التي تحتاج فيها تلك الدول إلى التعبئة الجماهيريّة لمُواجَهة الأخطار.
الفارق في هذا الفاعل في طبيعة العلاقة مع الدولة؛ إنه غير مُنفصِل عن الحكومة العراقـيّة؛ فالحكومة ورئاسة الوزراء هي مَن تُشرِف عليه تحديداً، بل يُمثِّل استكمالاً لمشروع الدولة العراقيّة بعد 2003، بل -على حدِّ تعبير مُستشار الأمن الوطنيِّ العراقيِّ - إنه أشرف ما قدَّمته العمليّة السياسيّة، فقد تأسَّست هيئة الحشد الشعبيِّ؛ بناءً على الأمر الديوانيِّ لمجلس الوزراء المُرقم 47 لعام 2014، وخصَّصت له الأموال من ميزانيّة الدولة العراقـيّة.
كما يُعزِّز دور الحشد الشعبيّ هو طبيعة الدور المُتوقع الذي تُؤدِّيه في العلاقات الدوليّة الذي شكّل عنصراً مُؤثِّراً في سياسات الدول؛ ولهذا يقول ريتشارد كلارك، المستشار السابق لشؤون الإرهاب في البيت الأبيض في مقابلة له مع CNN بأنه «إذا كنا نرى أن داعش هو مصدر الخطر على أمننا القومي عندها سنعتبر أنه العدو، إذا كان علينا العمل مع إيران حالياً فلنفعل ذلك، ففي الحرب العالمية الثانية تحالفنا مع الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي لأنهم قرروا قتال النازيين، وبالتالي إذا قررت إيران دعم الحشد الشعبي التي تقاتل داعش، فعلينا أن نؤمن لهم الغطاء الجوي». وبل يقول قائد قوات التحالف جون الن إنها الحل الجيد لمحاربة «داعش»، وفعلاً أثبت هذا المشروع الذي سيكون له المستقبل في تغيير المعادلات الإقليمية في المنطقة قبل الخريطة السياسية العراقية.
* مدير مركز بلادي للدراسات والأبحاث الاستراتيجيّة ــ العراق