حين سئل أحد «وجهاء» القوات اللبنانية الجدد (ابراهيم صقر) عن رأيه بقول اللواء المتقاعد جميل السيد إنه «لولا حزب الله لكانت داعش وصلت إلى معراب لتسجن سمير جعجع وتأخذ زوجته للبغدادي»، أجاب: «نذبحها ولا نسمح لهم بأخذها». القوات واضحة: تفضّل الانتحار على شكر حزب الله أو إزعاج السعودية بالانخراط الجديّ في عملية الدفاع عن النفس. وليس أغرب من «فتوى» صقر إلا دعوة القوات مناصريها إلى الرهان على الجيش اللبناني الذي لملم النظام السوري مطلع التسعينات صفوفه بعد أن أنهكته القوات التي قامت على أساس التشكيك بقدرته على حماية لبنان. لكن، تفهم الموقف القواتي، بكل غرابته، يبقى ممكناً في ظل سعي رئيس الحزب لإثبات ولائه للمحور الوهابيّ. أما ما يصعب تفهمه فهو موقف التيار الوطني الحر. رغم اعتبار العماد ميشال عون أن الحرب التي يخوضها حزب الله وجودية، يكتفي تكتل التغيير والاصلاح، غالباً، بترك السطر الأخير من بياناته الأسبوعية لإدانة الأعمال التكفيرية.
يتمحور خطاب القيادة العونية حول مبادرات لانتخاب الرئيس القوي وإيجاد قواسم مشتركة مع القوات (رغم اختلافهما على تحديد الخطر المحدق بمختلف أشكال التعددية في الشرق) والتعيينات الأمنية وتجنيس المتحدرين من أصل لبناني، لا المساهمة في دحر جحافل التكفيريين الذين لن يُبقوا رئاسة ولا مواقع أمنية ولا جنسية لبنانية في حال فوزهم.
لا شك أن في حزب الله من يطمئن الرابية. لكن الجنرال كان مطمئناً أيضاً في حرب تموز، ورغم ذلك اضطلع بدور رئيسي في تأمين الالتفاف الشعبي الأكبر حول المقاومة، وإشعار المقاومين بأن شعبهم يحتضن أسرهم ويقدّر تضحياتهم. يومها، قاد عون جمهوره نحو شعور عارم بأنها معركة كل اللبنانيين لا حزب الله فقط. وفي حرب نهر البارد، كان الجنرال أيضاً مطمئناً إلى النتيجة النهائية للمعركة، لكنه رغم ذلك تابع بنفسه تنظيم عشرات الأنشطة في مختلف المناطق لإبقاء معنويات العسكريين مرتفعة، وأوعز إلى هيئات التيار في مختلف المناطق لإرسال ما تيسر من مساعدات غذائية وعينية للجيش، بما في ذلك أكياس الرمل للمتاريس، قبل أن يحمل العونيون العميد فرنسوا الحاج وزملاءه من نهر الكلب إلى نهر الموت احتفاء باندحار الإسلاميين.
اليوم، لا تتكبّد هيئات التيار في الجامعات، مثلاً، عناء إضاءة شمعة إكراماً لمن يموتون دفاعاً عن لبنان، مع العلم أن بعض الشهداء كانوا على مقاعد الدراسة مع زملائهم العونيين في الجامعات الأميركية واليسوعية والأنطونية. لم تسأل هيئة واحدة في التيار عما يمكنها فعله لرفع معنويات أسر المقاتلين وإشعارهم بأن كثيرين يقدّرون جميلهم في وجه حملة 14 آذار المتواصلة للتشهير بأبنائهم وتبخيس تضحياتهم. ولم يتلقف أحد من العونيين جدياً المبادرات المتفرقة من المقاتلين وأسرهم للسجود أمام المزارات الدينية وتزيين نعوش الشهداء بصور القديسين المسيحيين. فيما تتواصل حفلات العشاء المناطقية المملّة، لم نشهد تنظيم رحلة واحدة إلى الخطوط الخلفية لجبهات القتال لدعم المقاتلين، ولا تحاول وسائل الإعلام العونية الاستعاضة عن بعض ضيوف الفراغ السياسي بمخاتير وعسكريين متقاعدين وناشطين عونيين يحرسون قراهم منذ أشهر عدة.

لا تتكبّد هيئات التيار في
الجامعات عناء إضاءة شمعة إكراماً لمن يموتون دفاعاً عن لبنان

أما سياسياً فيمكن تخيل الوزير جبران باسيل، في ما لو قرر الاستفادة من إنجازات حزب الله في حماية لبنان وإلحاق الهزائم بالتكفيريين في سوريا، في دور وزير خارجية الدولة الصامدة في وجه الدفق الوهابي على منابر الأمم المتحدة وغيرها من المواقع الدبلوماسية. فالناخبون الذين يسعى جاهداً لاستقطابهم لا تهمهم المؤتمرات الاغترابية و»التمريك» على حركة أمل وإعطاء الجنسية للمتحدرين من اصل لبناني. سيصفق هؤلاء لوزير خارجية يخلع كفوف الدبلوماسية لتسمية الأشياء بأسمائها، ويجاهر باستعداده لقتال التكفيريين دفاعاً عن حرية وطنهم وسيادته، ولا يخجل بلقاء وزير الخارجية السوري وليد المعلم، ويتصرف في المحافل الدولية بوصفه شريكاً أساسياً في الانتصار المتواصل منذ أربع سنوات على الإرهابيين.
النواب العونيون الذين يتجنبون منذ عامين المقابلات الصحافية لعدم امتلاكهم ما يقولونه، يفترض بهم السؤال عن سر شعبية نجوم المقابلات التلفزيونية الجدد؛ علهم يُسمعون ناخبيهم بعض مما يشتهون سماعه. لماذا يذهب الوزير السابق وئام وهاب إلى حضر ولا يذهب النائب حكمت ديب إلى معلولا؟ لماذا يذهب النائب أسعد حردان إلى معلولا ولا يذهب النائب ابراهيم كنعان؟ ولماذا تنخرط الكنيسة – بطريركاً ومطارنة – في توفير الدعم المعنوي للنظام السوري وحزب الله، فيما يتفرج العونيون؟ والأهم، كيف ينطلق حوار مع القوات اللبنانية أو غيرها قبل الاتفاق في بنده الأول على ماهية الخطر الرئيسي الذي يهدد لبنان اليوم والسبيل الأنسب لمقاومته. وما نفع قوانين الانتخاب والرؤية الاقتصادية وكل النوايا الأخرى طالما نية سمير جعجع ملاقاة البغدادي في منتصف الطريق. لا أحد يأمل أن يحذو العونيين حذو القوميين في الانخراط في الحرب الوجودية القائمة، لكن هناك دائماً من يقدم دمه في موازاة تقديم الآخرين الإسعافات الأولية أو الدعم الإعلامي أو الموقف السياسي أو غيره.
مبدئياً، يفترض بالعونيين أن يكونوا في طليعة المقاومين، بمختلف الأشكال، للغزوة التكفيرية، باعتبارهم الممثلين الرسميين لأبرز المستهدفين بهذه الغزوة. إلا أن الأمر يتجاوز المبدأ إلى التفاصيل السياسية الصغيرة أيضاً. فمن يريد التصرف لاحقاً بوصفه شريكاً في الانتصار المنتظر على التكفيريين لا يسعه التفرج اليوم. ومن تعنيه حسابات الربح والخسارة الداخلية لا يمكنه تضييع هذه الفرصة الاستثنائية للانقضاض على خصومه الذين يتحالفون مع أولياء نعم «الدواعش» ومصدريهم إلى سوريا، ويبررون ــــ بذرائع متعددة ــــ الاعتداءات المختلفة على الجيش واللبنانيين. ولا شك أن تأخر التيار في شن هجوم جديّ على «موظفي» السفارة السعودية في لبنان ومستأذنيها في الصغيرة والكبيرة، هو ما يتيح استمرارية هؤلاء في التنقل بين الشاشات واستيلاد مجالس وطنية بدل أن يقفلوا دكاكينهم ويختبئوا من نظرات الرأي العام. أما الأهم، هنا، فهو قدرة التيار في حال اضطلاعه بدور ما في محاربة التكفيريين على استقطاب الرأي العام مجدداً، بعدما تبين أن شعارات التغيير والإصلاح لا توصل إلى نتيجة، و»المحاسبة» لا ترقى إلى مستوى القضية بالنسبة للبنانيين. الأكثرية تسلم أمرها لغرائزها، ولا «بعبع» أهم من التكفيريين بالنسبة للغرائز. يكفي تتبع الموقع الإلكتروني للتيار الوطني الحر الذي يخصّص الجزء الأكبر من مساحته لأخبار «داعش» والتكفيريين، ويكفي التدقيق في أكثر الأخبار قراءة وتناقلاً على هذا الموقع للتيقن من أن الغالبية العظمى من المتصفحين تهمهم أخبار هؤلاء، أكثر بكثير من عمل مجلسي النواب والوزراء وانتخاب رئيس للجمهورية. وحتى «أسطورة شامل روكز» تبدأ وتنتهي من دور قائد فوج المغاوير المفترض في محاربة التكفيريين.
بمعزل عن كل التفاصيل الأخرى، لا شك أن الأمر يتعلق أخيراً بشخصية الجنرال نفسها. طوال مسيرته لم يعتد العماد ميشال عون التفرج على التاريخ يكتب نفسه من دون أن يتدخل ليحاول محو سطر أو إضافة كلمة أو وضع نقطة على السطر. يوماً ما سيستفيض المؤرخون في الكتابة عن المعارك التي شهدتها المنطقة في هذه الأيام، مكتفين بالمرور برئاسة الجمهورية مرور الكرام. وسيتساءل هؤلاء عما دفع الجنرال إلى الذهاب حتى النهاية في الوقوف مع حزب الله ضد إسرائيل متحدياً المزاج الدولي والشعبي، فيما يكتفي اليوم بتأييد حليفه من بعيد لبعيد رغم ترحيب المزاجين الدولي والشعبي بردع حزب الله للتكفيريين.