يعود عمر مبنى «عشّ العصافير» الى زمن الإبادة. حين لاذ حوالى 4000 ناج من مذابح عام 1915 بمصنعٍ للنسيج يقع على قطعة أرض متاخمة للتل الأثري في مدينة جبيل. مبنى المصنع تحوّل لاحقاً الى ملجأ للأطفال الأيتام. على مرّ سنوات، شغل الاطفال المبنى، وتم تشييد أقسام إضافية، فضلاً عن كنيسة القديسة كيانه التي يعود تاريخها الى عام 1921، وهي بقيت منذ ذاك التاريخ دار العبادة الوحيدة لأرمن مدينة جبيل.
في 21 شباط 2015، أعلنت كاثوليكوسية بيت كيليكيا الأرمنية (راعية ميتم «عش العصافير» منذ عام 1967) تأجير القسم الجنوبي لعقار الميتم. حينها، صدر عن مجلس أمناء الميتم إعلان عن مشاريع «في طور التنفيذ» ستُقام داخل الميتم. ووفق الإعلان، ورد أن هناك مشروعين: واحد يتعلق بإنشاء متحف «للمجازر والأيتام»، وآخر يتعلّق بإنشاء منتجع استثماري سياحي في الاقسام الساحلية للميتم.
تبلغ مساحة العقار رقم 642 حوالى 30 ألف متر (29955)، وهو ينقسم الى قسمين، القسم الفوقي الذي يتضمن المبنى القديم للميتم، والكائن على الجهة اليمنى للمدخل الرئيسي، كان يستخدم من قبل ماريا جاكوبسن، مديرة مؤسسة الميتم لسنوات طويلة. والقسم التحتي (الساحلي)، وهو عبارة عن مبنى الميتم والكنيسة القديمة والمدفن الخاص. جرى تأجير هذا القسم الذي تبلغ مساحته حوالى 20 ألف متر مربع من قبل كاثوليكوسية الأرمن، وبحسب الإعلان الصادر عن الأخيرة، فإن المشاريع التي يخطط لإقامتها في الميتم تنقسم الى قسمين:
القسم الأول، يتعلّق بالمبنى القديم للميتم، حيث سيتحول الى متحف يخلّد ذاكرة المجازر والأيتام، كـ»شاهد حي لآلاف الأيتام الناجين من أهوال المجازر». وسيتم افتتاحه في 18 تموز المقبل.
القسم الثاني، حيث الأقسام الساحلية من الميتم، تم تأجيرها لرئيس بلدية جبيل السابق جان لويس قرداحي «بغية استعمالها من قبل العائلات لأهداف اجتماعية ورياضية».
المشروع استثماري سياحي شأنه شأن بفية المنتجعات القائمة على شاطئ جبيل (ڤارتان أ ڤاكيان) | للصورة المكبرة أنقر هنا
يبرر الاعلان لجوءه الى تأجير هذا القسم بـ«الحالة المزرية للأقسام والصعوبات المالية التي يواجهها الميتم»، فيما تشير مصادر مطلعة في جبيل الى «وجود صفقة مالية كبيرة من وراء هذا المشروع تمت بين أصحاب المشروع والكاثوليكوسية بمباركة بعض الجهات الأرمنية الحزبية النافذة». وتضيف المصادر نفسها: «عندما تم تشييد هذا المبنى، تم تخصيصه للأيتام الأرمن، أي لمنفعة عامة، فلماذا يتم تحويله الى مصالح خاصة؟».
لم يعلن عن طبيعة المشروع، واكتفى البيان بالإشارة الى الآتي: «أما في ما يتعلق بأهداف وطريقة الاستعمال خلال الفترة التأجيرية، فقد وقّع عقد بين المستأجر وكاثوليكوسية الأرمن لبيت كيليكيا»، فيما يؤكد وزير الثقافة ريمون عريجي في حديث إلى «الأخبار» أن المشروع المطروح هو مشروع استثماري سياحي، شأنه شأن بقية المنتجعات المقامة على ساحل جبيل». ويشير عريجي الى «الخصوصية التي يتمتع بها المبنى والمنطقة على حدّ سواء»، على اعتبار أن المبنى تراثي والعقار يقع في منطقة مصنفة أثرية، إضافة الى التصاقه بسور القلعة الأثرية، لافتاً الى أنه «طلب إيضاحات من الجهات المعنية، وحوّل الملف الى منظمة الأونيسكو التي طلبت بدورها إيضاحات إضافية تتمثل في إجراء دراسة أثر بيئي وأثري، فضلاً عن طلبها من مقدمي الطلب إعداد دراسة تتعلق بالشق الأثري تكون بإشراف المديرية العامة للآثار.
ورد في الإعلان أنه على «على ضوء المشروعين المذكورين، سيُصار الى تنفيذ عدة مشاريع أخرى، من ضمنها «نقل رفات الأيتام المتوفين خلال السنوات الأولى لتأسيس الميتم من القبور الكائنة في القسم الساحلي»، على أن يتم حفظه في ضريح مستقل(..).
منذ أيام قليلة، بادر عدد من عناصر الدرك، بمرافقة ممثلين عن الكاثوليكوسية، ببدء تنفيذ عملية النقل تمهيداً للمباشرة بالمشروع، إلا أن أولاد أحد المتوفين استطاع أن يستصدر قراراً بوقف عملية النقل من قبل قاضي الأمور المستعجلة في جبيل جوزف عجاقة، على العقار 642 «لحين إبلاغ المديرية العامة للآثار (..) وتكليفها الجواب ضمن مهلة أسبوع من تاريخ التبليغ».
«ليس مفهوماً سبب الإصرار على «إبادة» المدفن ونقل رفات 33 متوفى، ذلك أن المساحة التي يشغلها هذا المدفن الذي يعد «مزاراً» لسكان الحي لا تتعدى 500 متر»، هكذا يعلّق الناشط المدني وحفيد أحد الناجين المتوفين فارتان أفاكيان.
من يزر المدفن يدرك أن الأخير ليس إلا عبارة عن «تصوينة» صغيرة تعني الكثير لأهالي من تحتضنهم ولبقية الأرمن الذين يتخذون منه «مزاراً».
يقول أحد المتابعين للملف إن الكاثوليكوسية تستغل واقع أن معظم رفات من دفنوا هم يتامى ناجون، وبالتالي لن «يغضب» أحد إذا ما نقلوا ولن يطالب أحد بهم. ضمن هؤلاء الثلاثين، يوجد نحو 16 طفلاً يتيماً مدفونين هناك، أكبرهم كان يبلغ من العمر 21 عاماً عندما توفي، «وبالتالي لن يطالب بهم أحد، فهم بالأصل يتامى ناجون»، مشيراً الى «وجود أربع عائلات فقط ممن لديها أحباء مدفونون في هذا المدفن».
عائلة أفاكيان، هي العائلة الوحيدة من بين العائلات الأربع التي ترفض نقل الرفات علناً، إذ يتردد في أوساط الحي الأرمني هناك أن بقية العائلات «ممتعضة من هذا الأمر، إلا أن ضغطاً مورس عليهم من قبل حزب الطاشناق ومن قبل كاثوليكوسية بيت كيليكيا الكبير الأرمنية. رفضت الأخيرة التعليق على الأمر، وقالت لـ»الأخبار»، «إنه ليس لدينا أي تعليق على هذا الأمر حالياً»، فيما أكّد حزب الطاشناق أنه «غير معني بهذا الأمر».
يرد في بيان مجلس الأمناء أن الرفات سيتم حفظه في ضريح مستقل مع لوحة خاصة جانب متحف المجازر والأيتام قرب ضريح ماريا جاكوبسن، في حين يقول أفاكيان إن تبرير الكاثوليكوسية غيرمقبول، ذلك أن «نقل الرفات، توسيعاً للمشروع الاستثماري، يعني جمع الرفات ضمن مقابر جماعية، وهو أمر نسعى الى رفضه منذ زمن»، مضيفاً: «ناس نجوا من المقابر الجماعية، كيف بنا ننبش رفاتهم ونزجهم في مقبرة جماعية؟ الأمر معنوي ومهم لنا للغاية». يقترح أفاكيان أن يتم رفع لوحة بأسمائهم في المتحف، كما هو مقرر، على أن يبقى الرفات مكانه، «مشوا آلاف الأمتار ليوصلو على جبيل، مش كثير إذا مشينا 200 متر (المسافة بين مكان المتحف المزمع إنشاؤه والمدفن) لنزورهم».

أفاكيان، كما سائر عائلته وعدد من أرمن جبيل، يعتقد أن هذا «المزار» هو معلم أساسي من معالم ذاكرتهم وتاريخهم، وأن قرار نقل الرفات هو «مسّ» بهذا المعلم، لافتاً الى أن «هذا المزار هو مدفن تلقائي، لم يكن يوماً تابعاً للبطريركية. أهميته تكمن في أنه تلقائي. هو حقاً لا مثيل له».
وكان عدد من الناشطين الأرمن قد أعدوا دراسة مصغرة حول طبيعة المشروع، لتمثل «دعوة للتحرّك ضده». ويقول هؤلاء في دعوتهم إن «من واجبات الكاثوليكوسية، باعتبارها راعية أرمن الشتات والقائمة على حقوقهم وذاكرتهم وإرثهم٬ أن تقوم بدورها في وقف أيّ مساع لتدمير المدفن، وذلك من منطلق أخلاقي وتاريخي في المقام الأول٬ والحفاظ على كنيسة القديسة كيانه باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من تراث مدينة جبيل».

وتوجه الناشطون الى المديرية العامة للآثار كي «تقوم بواجباتها في الحفاظ على منطقة المدفن التي تم تصنيفها موقعاً للتنقيب الأثري، الذي يحتّم حمايته، نظراً إلى متاخمته موقع التلة الأثرية.

المشروع المطروح هو
مشروع استثماري سياحي سيصادر ذاكرة جبيل والأرمن


ويستند الناشطون الى تصنيف التخطيط المدني لهذا الموقع على أنه أملاك عامة، وحقل حفريات خاضع لسلطة المديرية العامة للآثار، وبالتالي «على بلدية جبيل ووزارة الثقافة أن يقوما بواجبات كل منهما وبما لديهما من صلاحيات في إعلان موقع مدفن عش العصافير للناجين من الإبادة موضعاً ذا طابع تراثي إلى جانب كونه نصباً تذكارياً يشهد على دور لبنان في استقبال اللاجئين».
مصادر بلدية جبيل قالت إن عملية نقل الرفات «ليست من صلاحياتها، فهي تقع ضمن أملاك خاصة ولديها جهة مخولة التصرف فيها»، فيما أكد المهندس في البلدية زاهر أبو غصن أن «البلدية لا تملك أي تصور حول المشروع المزمع إنشاؤه، وأن جلّ ما وُجّه اليها هو كتاب من قبل البطريركية الأرمنية تطلب فيه إذن التنقيب عن الآثار. كذلك أكد عريجي أنه «لا صلاحية للمديرية العامة للآثار بما يتعلق بنقل الرفات»، فيما يرى أفاكيان أن الوزارة والبلدية لا تملكان صلاحية بتّ نقل الرفات، «إلا أنهما تستطيعان وقف عملية النقل».