ليست تلك معجزة صديق سوريّا الكبير الرئيس فلاديمير بوتين، بل هي المعجزة السورية. عدّدوا ما شئتم من الانتقادات الصحيحة أو المبالغ بها، في أداء النظام السوري، إنما أنظروا إلى الخط العام لهذه الحرب الشرسة التي تخوضها الجمهورية العربية السورية، منذ 52 شهرا، في مواجهة جبهة متداخلة معقّدة من المتمردين الرجعيين المحليين، والتدخّل العدواني الغربي ــــ الرجعي العربي ــــ العثماني، والهجوم الإرهابي الصلف العنيد؛ إنها معجزة كفاحية تاريخية، ساهم فيها الحلفاء الروس والإيرانيون، ولكنها، في النهاية، معجزة التكوين السوري، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، معجزة الجيش العربي السوري وحزب الله وقوى المقاومة، وفي مقدمها الحزب السوري القومي الاجتماعي.
لم تنته الحرب، بعد، لكي نرفع نخب النصر. ما يزال، أمامنا الكثير من التضحيات، إنما المعطيات المتوفّرة حول خلفيات المبادرة الروسية تشير إلى أننا نقترب من ربع الساعة الأخير، لتثمير سنوات الصمود والقتال:
أولاً، توفرت لدى وزارة الدفاع الروسية معلومات استخبارية عن خروج «داعش» عن سيطرة داعميها الغربيين والخليجيين. بذلك، تحولت هذه الميليشيا الإرهابية غير المسبوقة من حيث عديدها وعدتها وانتشارها وبربريتها، إلى خطر يهدد المنطقة والعالم، من دون تمييز سياسي بين المحاور والمعسكرات. فالكويت وتونس مستهدفتان كسوريا والعراق، والسعودية كإيران محل للخطط الداعشية، بل إن السعودية، بالنظر إلى رمزيتها الدينية، هي البند الأهم على أجندة «داعش».
ثانياً، تورط السعودية في اليمن نحو حرب طويلة، لا تستطيع المملكة، تحمّل حجمها وتبعاتها، خصوصاً في ظل الفتور في علاقاتها مع الولايات المتحدة، كما لا تستطيع وقفها من دون تسوية تحفظ الحد الأدنى من مصالحها في صلب محيطها الجيوسياسي. إنه مأزق لا مخرج منه إلا بتسوية تديرها وتضمنها موسكو وطهران. وقد وضع السعوديون الملفّ اليمني في عهدة الرئيس بوتين ليبحث عن حل؛ والحل، بالطبع، يبدأ من سوريا وفيها؛ فالحرب المستعرة في هذا البلد هي الموقد لكل نيران المنطقة، السياسية والطائفية والاتنية، المشتعلة والمرشحة للاشتعال.
ثالثاً، الهواجس السعودية إزاء تنامي قوة إيران ودورها الإقليمي لا يمكن تهدئتها، واقعياً، من دون إحياء صيغة فاعلة للنظام العربي. وهي صيغة غير ممكنة من دون سوريا موحدة وقوية، وتستخدم تحالفها مع ايران، كما كان الحال إبان الحرب العراقية ـــــ الإيرانية في الثمانينات، لخلق سياق التوازن اللازم مع إيران، واحتواء الخلافات والصدامات والقطيعة. هذه المقاربة تفرض نفسها، الآن، على مطبخ القرار في النظام السعودي الجديد، المعزول داخلياً، والمتورّط عربياً، والمهدّد بالتحولات الحاصلة في ميزان القوى الإقليمي والدولي، كما بالتهديد الإرهابي. المصالحة مع سوريا، في النهاية، قدر السعودية، لاستيعاب الصعود الإيراني ومواجهة الخطر الإرهابي.
رابعاً، الصدمة التي تلقتها محاولة الغزو الفاشلة لجنوب سوريا أثبتت أن الاعتماد على ميليشيات «معتدلة « لتعديل ميزان القوى مع النظام السوري مجرد وهم؛ فقد تعرضت هذه الميليشيات لهزيمة قاسية في درعا، تكرارا لهزائمها منذ 2011؛ ففي الواقع، الفصيلان الوحيدان اللذان حققا الإنجازات العسكرية في الحرب على الجيش السوري، هما التنظيمان الإرهابيان، «القاعدة ــــ النصرة» و»داعش». ولعل هذا هو السبب الذي حدا بأوساط أميركية إلى طرح فكرة إعادة تأهيل «النصرة» في إطار هيئة لـ «المعارضة المعتدلة «. وهو مشروع غير واقعي، بالنظر إلى رفض قيادات «النصرة» قطع روابطها مع القاعدة، والحاحها على خطاب طائفي ــــ تكفيري هو الضامن الوحيد لاجتذاب «المجاهدين» ومنافسة «داعش» على قلوب أنصار السلفية المقاتلة، و...»عقولهم».
الأطراف الداعمة لمشروع الميليشيا المعتدلة، أقرت، سياسياً، بالهزيمة، وتتجه نحو التهدئة، والقبول بالشروع في بحث وضع حد للحرب السورية، والانتقال إلى تصفية الظاهرة الإرهابية.
خامساً، أردوغان في أسوأ وضع ممكن. خسر الأغلبية البرلمانية، ويواجه، في الوقت القصير المستقطع حتى الحكومة الجديدة أو الانتخابات المبكرة، خياراً قاسياً. لا غنى له عن الارهابيين لمواجهة التحدي الكردي، في حين تتسارع عملية نزع الغطاء السياسي عن الارهاب في سوريا والمنطقة.
يبحث أردوغان، كالمجنون، عن مخرَج؛ فمن جهة، يحضّر للغزو ــــ ويعرف أنه مكلفٌ وممنوع، داخلياً وإقليمياً ودولياً ــــ ويوسّط موسكو، من جهة ثانية، في مسعى للتفاهم مع دمشق على أساس وجود مصلحة مشتركة في منع قيام كيان كردي سوري. الردّ على هذه الرسالة «المغرية» جاء سريعا بالرفض؛ ففي تصريحات الوزير وليد المعلّم، لفضائية «روسيا اليوم»، موقف صريح بعدم ممانعة أي صيغة سياسية يقترحها كرد سوريا، لا تمس بوحدة الجمهورية العربية وسيادتها؛ معنى ذلك، أن دمشق قررت حل المسألة الكردية السورية، جذرياً وديموقراطياً، ودفع الحل ــــ القنبلة الموقوتة في أحضان الأتراك.
سادساً، الأردن هو أضعف الحلقات. تتزايد مخاوف الأردنيين، ليس، فقط، إزاء المخاطر الارهابية الخارجية، وإنما، بالأساس، إزاء المخاطر الداخلية المتمثلة في تزايد الميول الشعبية نحو الإرهابيين،على خلفية الشحن المذهبي. معهد «ستراتفور» الأميركي يحذر من أن الأردن هو الهدف التالي لـ «داعش». ويمكننا أن نضيف، أيضاً، «النصرة»، الأكثر تغلغلا في صفوف بيئات محلية أردنية، خصوصا في المخيمات.
سابعاً، وأخيراً، فإن مصر السيسي التي تغرق في التمرد الاخواني والإرهابي، كما تغرق في سلة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية، أظهرت أنها لا تستطيع أن تقدّم الكثير للسعودية. كان رهان نظام الملك عبدالله بن عبدالعزيز يتركز على وهم القدرة المصرية على المواجهة مع إيران، إلا أن نظام الملك سلمان اكتشف الحقيقة المرّة في العجز السياسي والعسكري المصري، حتى عن توفير الحد الأدنى من القوات لمساندة الحرب السعودية على اليمن. في الواقع، فإن القاهرة تركت الرياض، تواجه المأزق اليمني، وحيدة.
هذه هي المعلومات والمعطيات، وهذا هو المشهد الذي ولّد المبادرة الروسية لإقامة حلف سوري ــــ سعودي ــــ تركي ــــ أردني، لمحاربة الإرهاب؛ مبادرة واقعية تبدو وكأنها مصممة في «عين التينة»، تقترح إنهاء الحرب في صيغة تسمح باستعادة النظام العربي كإطار لحل الأزمات؛
أولاً، انتقلت موسكو من توصيف ما يحدث في سوريا من كونه «أزمة»، تتطلب، بالأساس، حلاً سياسياً داخلياً، إلى ما حدّده الرئيس بوتين، بدقّة، باعتباره «كفاح الشعب السوري ضد الإرهاب».
ثانياً، لا مساومة على التحالف الروسي ــــ السوري، ولا على سوريا، قيادة وشعباً، ما يجعل نقطة البداية في المفاوضات الممكنة حول المصالحة الإقليمية، هي إقرار الجميع بشرعية الرئيس بشار الأسد، والاعتراف بدور سوريا، بقيادته، في أي صيغة للنظام العربي الجديد.
ثالثاً، وبالمقابل، أبلغ الروس حلفاءهم بأنه لا مجال لتجاوز السعودية في تأمين الاستقرار الإقليمي، ووقف حالة الفوضى والشحن والاقتتال المذهبي والطائفي.
لبنان، وكما لعب ــــ عبر حزب الله ــــ دوراً فاعلاً في الحرب، يمكنه اليوم أن يلعب دورا فاعلاً ــــ عبر الرئيس نبيه بري ــــ في المصالحة السورية ــــ السعودية. فالمبادرة الروسية تتوافق، كلياً، مع موقع الرجل ونهجه، لبنانياً وعربياً وإقليمياً؛ فرصة تتطلب من الرئيس، الخروج من الدوّامة الداخلية، إلى مداخلة دولية، نعرف ــــ ويعرف ــــ جيدا، أنها المدخل لحل الأزمة السياسية اللبنانية.