عندما أسّسوا «مجموعة كهربا» عام ٢٠٠٦، لم يكن في بالهم أنّ «نحنا والقمر والجيران» سوف يحتل جزءاً ليس بيسير من يومياتهم. هم مجموعة من الفنانين والمحترفين في مجالات متعددة، دفتعهم حماستهم للعمل كمجموعة. التقوا على رزمة من الأهداف والتطلعات المشتركة: «اللقاء بالجمهور أينما حل، اكتشاف أشكال فنية متنوعة ومتعددة الوسائط (المسرح، والرقص، والدمى، والتصوير الفوتوغرافي والفيديو...)، وتحقيق لحظات فنية تبني رابطاً ودياً».
قصدوا القرى وقدموا أعمالاً مسرحية متنوعة في كل من الهرمل، ومرجعيون، وزحلة، ودير القمر، وبعلبك، وفقرا وطرابلس وغيرها. لا شك في أنّ تلك التجارب سمحت لهم ببناء رابط وعلاقة مختلفة مع الفعل الفني أو العمل الثقافي ومع الجمهور. يقول أوريليان الزوقي: «شعرنا بمعنى تجربة العروض الفنية، تلك التي تتيح لمجموعة من الناس أن يجتمعوا لنصف ساعة يستعيدون من خلالها الخيال والحلم والضحك، والعودة إلى الطفولة وتشغيل الخيال، كل ذلك يعيدنا إلى إنسانيتنا المشتركة». الإنسانية المشتركة هي الكلمة المفتاح التي تبني عليها تلك المجموعة أسس عملها الفني. في هذا السياق، يأتي «مهرجان نحنا والقمر والجيران» استكمالاً عفوياً لثلة تجربتهم، ويترجم بأعمال ملموسة عبارة «الإنسانية المشتركة». كانت نقطة الانطلاق حين قررت مجموعة من أعضاء «مجموعة كهربا» الانتقال للسكن في احدى منازل «درج الفاندوم». تحول هذا الفضاء إلى قاعة تمرين للفرقة. وهنا كُتب فصلٌ جديد للحي: «ــ بتعملوا مسرح؟ على أيّا تلفزيون؟ــ لا، منعمل مسرح لايف، مباشر ــ آه لايف؟ طيب على أيا قناة؟».
كان أعضاء الفرقة يتنقلون بالدمى وبالديكور المسرحي على مرأى ومسمع جيران «درج الفاندوم» الذين سمعوا نصوصهم وساعدوهم على نقل أدواتهم. حاولت المجموعة دعوة أهالي الحي إلى أعمالها المسرحية، لكن ذلك كان متعذراً. في تلك اللحظة، تنبّهت الفرقة إلى ضرورة القيام بعمل فني على «درج الفاندوم» نفسه وفي الفضاء الطلق. لا يمكن لـ «غير العارف» أن يفهم المسرح أو يتذوق الرقص إلا إذا اختبرهما.
في هذا السياق، انطلقت الدورة الأولى لمهرجان «نحنا والقمر والجيران» عام ٢٠١٠ وكانت مخصصة لأهل الحي وبعض المحترفين والشركاء للفرقة. يقول أوريليان الزوقي إنّ المهرجان بني على ركنين أساسين: «أن يكون لأهل الحي ومع أهل الحي، وأن يكون فضاءً رحباً ودوداً يجمع قاطني «درج الفاندوم» بأصحاب الأعمال الفنية، ويشكل منصة لقاء وتعارف بين العاملين في الفنون والصناعات الثقافية على حد سواء». منذ دورته الأولى، أصرت الفرقة أن يبقى المهرجان مجانياً كي يكون متاحاً للجميع وقدمت أعمالاً محلية ودولية من مصر، وسوريا، وفرنسا، وسويسرا والنمسا.
شيئاً فشيئاً، استملك أهل الحي المهرجان. باتت تلك التدخلات الفنية في عقر دارهم، جزءاً من الذاكرة الشخصية والجمعية لقاطني «درج الفاندوم». أصبح المهرجان معلماً من معالم المكان الذي وجب الحفاظ عليه. على مدى دوراته الثلاث، كان المشهد ذاته يتكرر مع تبدل وتنويعات مختلفة في العناصر الفنية كل عام: موسيقى كلاسيكية تُعزف بإتقان على سطح مبنى تبني طباقاً مع أصوات الحكواتية في المبنى المجاور. امرأة تتسابق مع درجات الفاندوم لتلحق بداية عرض الفيلم. مارة بالصدفة يتلفتون لاحتفالية ما. منقوشة نوال. رجل على شرفة منزله يدعونا نحن الجمهور لمشاركته كأس العرق. عرض فيديو على الدرج. بائعة التبولة ومنقوشة الصاج.

يستضيف الحدث هذه
السنة نحو 40 عملاً فنياً من
لبنان ومن الخارج


تعتمد «مجموعة كهربا» على إشراك أهل الحي في التحضير لـ «نحنا والقمر والجيران». لعل أبرز ما نجح فيه منظموه هو نزع القدسية والجمود عن الأشكال الفنية أمام جمهور مبعد عن الثقافة ولا تربطه بالضرورة صلة بالفنون، فبنى المهرجان تلاقحاً عضوياً بين جماعات مختلفة ومتعددة المشارب. هذا الجمهور (أهل الحي) لم يعد جمهوراً. تحوّل إلى شريك أساسي واحد العناصر المحركة للمهرجان. صار في مكان ما هو العمل الفني. على صعيد آخر، جعل منظمو المهرجان من المسرح والرقص عملاً منزلياً يخرج إلى الفضاء العام، كما تم تنشيط «درج الفاندوم» من الناحية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
في دورته الرابعة التي تنطلق في 28 آب (أغسطس) تستمر لثلاثة أيام، يستضيف المهرجان نحو 40 عملاً فنياً من لبنان والخارج. وفي اطار فعالية «البرنامج المحترف»، ستتم استضافة مدراء ومبرمجين فنيين من الخارج، وسيقدّم سلسلة من اللقاءات والندوات التي تهدف إلى بناء فرص تعارف بين الفنانين المحليين أو القاطنين في لبنان والمبرمجين. لأجل تحقيق هذا الهدف، تقول منظمة الفعالية والمديرة الثقافية جوليان عرب، إنّه وجب على المبرمجين معرفة الإطار العام الاجتماعي والسياسي للمنطقة، كما عليهم أن يدركوا أن المعطيات المتنوعة والصعوبات التي تواجه الفنان اللبناني تختلف تماماً عن بيئة العمل في بلدانهم. لكن هذا المهرجان الفني العائلي يحتاج إلى دعم مادي كبير. لذلك، ارتأت المجموعة تنظيم حملة تمويل جماعية عبر موقع «زومال» الذي أطلق تحدي «نبدع معاً لدعم الفعاليات والمهرجانات الإبداعية» في العالم العربي بالتعاون مع «المركز الثقافي البريطاني» ومؤسسة Hivos. هذا المهرجان الذي بني على سواعد أهل المكان، الذي يفتش دوماً عن هوامش لاستعادة الإنسانية المشتركة يتبع النسق ذاته في البحث عن تمويل البديل: انه العمل الجماعي. انها روح الشراكة.

* لدعم المهرجان:
http://www.zoomaal.com/projects/naj2015/5035?ref=19403835
* «نحنا والقمر والجيران»: 28 آب (أغسطس) ـــ درج الفاندوم (مار مخايل)