انشغلت «العدلية» بالقاضي محمد صعب، مستشار وزير العدل أشرف ريفي. الرجل لاحق أمام القضاء ناشراً حقوقياً باع مجموعة نسخ من كتاب للمستشار («جرائم المخدرات»، مطبوع عام ٢٠٠٦). قال صعب إن الناشر «فعل فعلته» من دون إذن. زملاء القاضي حكموا له بتعويض يُعَدّ خيالياً في حالات كهذه (مئتا مليون ليرة لبنانية)، قبل أن يُخفّض في محكمة الاستئناف إلى ١٥٠ مليون ليرة، علماً بأن «ديّة القتل» في لبنان لا تتجاوز مئة مليون ليرة في حدّها الأقصى، إلا في حالات استثنائية.الحديث عن نفوذ المستشار في العدلية بات موضوعاً يومياً في أحاديث قصور العدل. وهذا «النفوذ» يصبح «طبيعياً» في بلد كلبنان، لا حدود واضحة فيه بين السلطات. و»الطبيعي» أيضاً أن يقبل قاضٍ بالعمل مستشاراً لسياسي برتبة وزير، رغم أن عدداً كبيراً جداً من زملائه يرون في ذلك انتقاصاً من استقلالية السلطة القضائية وهيبتها.

فالطبيعي في حالة الفصل الحقيقي بين السلطات أن يعمل القاضي مستشاراً في وزارة العدل لدراسة مشروع قانون ما، على أن تنتهي صلة القاضي بالوزارة فور انتهاء الاستشارة، لا أن يقبل القاضي بتأدية وظيفة مستشار دائم للوزير، علماً بأنه سيعود لممارسة السلطة الممنوحة له (وهي أعلى شأناً من السلطة التنفيذية الممنوحة للوزير) فور خروج السياسي من الوزارة.
قصة الحكم لمصلحة القاضي مستشار ريفي بدأت في أيلول ٢٠٠٦. كان صعب لا يزال قاضياً متدرجاً حين أنجز كتاباً سمّاه «جرائم المخدرات» طبع منه ألفي نسخة. يومها عرض صعب على دار نشر شراء نسخ كتبه مقابل مبلغ 13500 دولار. غير أن الناشر أبلغ صعب وجود خلل في الطباعة، فأعيدت طباعة ألفي نسخة أخرى مصححة. لكن بقيت مسألة عالقة تتعلق بالألفي نسخة الأولى التي يشوبها عيب والتي نشب حول المسؤولية عنها خلاف بين القاضي صعب ومن طبعها. لم يدفع القاضي كلفة الطباعة. ومن هنا بدأ النزاع. المدعى عليه (الناشر) يقول إن القاضي صعب «ترك النسخ لدي طالباً إيجاد صرفة لها للتعويض على من طبع». بقيت الكتب في المستودع من عام ٢٠٠٦ إلى عام ٢٠١٣، أي تاريخ قيام الناشر بتجليد عدد من النسخ المتروكة مع إدخال بعض التعديلات، كاستبدال صفة القاضي من متدرج إلى أصيل، وتغيير تاريخ الطبعة. أُرسلت النسخ إلى المَعارض. وبالنتيجة بيع من النسخ ٣٧٠ كتاباً. مرّت سبع سنوات، كان القاضي صعب قد انتهى لتوّه من كتاب سمّاه «جرائم الافتراء»، فاتصل بالناشر طالباً طباعته. غير أن الناشر أرجأه غير مرة بأكثر من حجة. ثم توقف عن الإجابة على اتصالاته، لأنه لا يريد التعامل معه مجدداً، فثارت ثائرة صعب. أراد الانتقام، فقصد جناح مكتبة الناشر في أحد المعارض ليشتري نسخة من كتابه المجدد الذي فيه عيب. رفضت البائعة قبض ثمن الكتاب، لكنه أصرّ على الدفع. فحرّرت له إيصالاً بـ«١٠ دولارات». خرج القاضي ثم عاد طالباً استبدال الإيصال بآخر عليه السعر الأصلي، أي ٤٠ ألف ليرة، زاعماً أنه بصدد تقديمه هدية لأحدهم. وذلك مثبت في دفتر الإيصالات، إذ إن هناك بحسب الرقم التسلسلي إيصالين لنفس الكتاب كل منهما بسعر. وبعد هذه الحركة، تقدّم صعب بشكوى احتيال وتزوير أمام النيابة العامة في بعبدا. يدّعي القاضي صعب أنه طلب من الناشر تلف النسخ التي فيها عيب، فيما تبرير الناشر هو: «نحن لدينا مستودع لحفظ الكتب، بينما التلف يجري في المطبعة، فلماذا نقل القاضي صعب النسخ من المطبعة إلى مستودعنا ما دام يريد إتلافها؟». وإزاء الدعوى، تم توقيف والد الناشر بناءً على إشارة النيابة العامة في بعبدا، بذريعة وجود تناقض في إفادته، علماً بأن الدعوى مقامة في البدء ضد الناشر والشركة، والمسؤول قانونياً فيها هو الناشر. كذلك سطّر رئيس المحكمة الناظرة في الدعوى بلاغ بحث وتحر بحق الناشر. بقي الوالد موقوفاً لتسعة أيام، قبل أن يخلى سبيله مقابل كفالة قدرها ٣٠ مليون ليرة.

أوقف القضاء
والد الناشر قبل أن يطلقه بكفالة تبلغ
30 مليون ليرة

رئيس المحكمة التي نظرت في دعوى صعب على الناشر فرض دفع كفالة مالية بلغت سبعين مليون ليرة لبنانية، لقاء استرداد مذكرة التوقيف بحق الناشر المدعى عليه. وهو نفسه سبق أن أصدر قراراً بإبطال تنفيذ مذكرة توقيف غيابية صادرة بحق أحد الأشخاص بجرم شيك من دون رصيد قيمته مئة وعشرة آلاف دولار أميركي، لقاء كفالة مقدارها 500 ألف ليرة لبنانية فقط.
أمر آخر يتوقف عنده محامون وقضاة تابعوا الملف، وهو «الحماسة» التي أبداها عناصر التحرّي لتوقيف الناشر الحقوقي. ولم تكد تغادر دورية حتى تحطّ دورية أخرى رحالها أمام منزله في بيروت وفي قريته وأمام مكتبته.
في دعاوى مماثلة، يكون «سقف الحكم» خمسة ملايين ليرة. غير أن النزاع القائم أمام محكمة جزاء بعبدا، بجرم خرق قانون حماية الملكية الفكرية، نتج منه حكم بالسجن بحق المدعى عليه لمدة سنة واستبدالها بغرامة، إضافة إلى إلزام المدعى عليه دفع تعويض للقاضي مستشار وزير العدل مقداره مئتا مليون ليرة.
لم يكتف مستشار «معاليه» بذلك، ولا النيابة العامة أيضاً. اعترضا على الحكم طالبين استئنافه طلباً لتشديد العقوبة. أما المدعى عليه فاستأنف طالباً البراءة وخفض العقوبة. ويوم الثلاثاء الماضي، أصدرت محكمة استئناف الجزاء في بعبدا حكمها بتبرئة والد المدعى عليه الذي سبق أن أوقف (وأخلي سبيله بكفالة قدرها 30 مليون ليرة)، وبخفض الغرامة بحق الناشر من عشرة ملايين ليرة إلى مليون ليرة. أما التعويض الممنوح للقاضي، والذي كان مئتي مليون ليرة، فخُفِّض إلى ١٥٠ مليوناً، وهو مبلغٌ لا يزال كبيراً مقارنة بطبيعة الدعوى. ففي حادثتين قد تكونان مشابهتين، بل «أصعب» من الحادثة موضوع النزاع، ادّعى أحد المستشارين في محكمة الاستئناف القاضي مالك عبلة (وهو أستاذ جامعي في القانون) ضد صاحب مكتبة اتهمه فيها بتصوير كتابه «Means of payment credit systems in lebanon» من دون إذنه وبيعه لطلاب الجامعة اللبنانية، فألزم القاضي المنفرد الجزائي المدّعى عليه بدفع بدل عطل وضرر قدره مليونا ليرة بمقتضى إحدى مواد قانون الملكية الفكرية. ليس هذا فحسب، بل حصلت حادثة أكبر بكثير تتعلق بتزوير «موسوعة أصول المحاكمات المدنية» (٢٨ مجلّداً) للقاضي إدوار عيد، وهي موسوعة لا تكاد تخلو مكتبة قانونية منها. حادثة تزوير موسوعة وليس نزاع على توزيع كتاب، حُكم فيها بتعويض مقداره ١٨٠ مليون ليرة. أما القاضي مستشار ريفي، فُحُكِم له بتعويض وقدره 150 مليون ليرة لبنانية.