كثيرون كانوا يحلمون بأن ينتقل قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز، في حال عدم تعيينه قائداً للجيش، من رومية إلى قيادة التيار الوطنيّ الحر. إلا أن تحديد موعد الانتخابات في 20 أيلول، قبيل تقاعد روكز ببضعة أسابيع، يقطع عليه طريق رئاسة التيار. أما من كانوا يتوقعون أن تؤول رئاسة التيار إلى نعيم عون، باعتباره الأقدر على لمّ شمل جميع الناشطين، فخابت توقعاتهم أيضاً، بحكم مادة في نظام التيار الداخلي تنص على وجوب امتلاك المرشح إلى رئاسة الحزب شهادة جامعية.
وسط هذا كله، استبقت صحيفة «المستقبل» فتح باب الترشيحات بنشر خبر عن حتمية فوز الوزير جبران باسيل برئاسة التيار، في موازاة تسريب مصادر «المستقبل»، في وزارة الداخلية، أخباراً عن إيجاد وزير الداخلية نهاد المشنوق مخرجاً يتيح له التراجع عن رفض التعديلات على النظام الداخلي التي أرسلتها الرابية، على نحو يرضي باسيل، بعدما كان لرفضها أثر كبير في خلخلة علاقته بتيار «المستقبل».
وتبدو خريطة طريق باسيل للوصول إلى رئاسة التيار واضحة، وهي تستند أساساً إلى:
1ــــ نظام داخلي استبعد شامل روكز ونعيم عون.
2ــــ تكثيف اللقاءات التعارفية مع أبناء التيار ممن يعرفون الجنرال ميشال عون ولا يعرفونه، بعيداً عن البذلة الرسمية.
3ــــ الظهور في مجلس الوزراء بمظهر المدافع الأول عن حقوق المسيحيين.
إلا أن طريق وزير الخارجية إلى رئاسة التيار لا تبدو معبّدة بالورود. فقد بادر النائب آلان عون، من خارج السياق، إلى الإعلان في مقابلة تلفزيونية احتمال ترشحه، قبل أن يستضيف في منزله لقاءً ضم ستة من النواب العونيين الثمانية، وأبرز المرشحين العونيين في الأشرفية والمتن والكورة وعكار، إضافة إلى نعيم عون. وتبع اللقاء اجتماع آخر عقده ناشطون أساسيون لدرس كل الاحتمالات، بما فيها ترشيح النائب زياد أسود أو زميله سيمون أبي رميا بدل آلان عون إن كانت حظوظهما أكبر، ولتجنّب الوقوع في فخ الخلاف العائلي بين صهر الجنرال وابني شقيقه وشقيقته، مع إبقاء النائب إبراهيم كنعان خارج اللعبة لتقديمه كمرشح توافقيّ لاحقاً إن لزم الأمر.

الطريق إلى رئاسة التيار
تمر بالرابية ولا يشك اثنان في أن سيّدها يفضل باسيل

خلص اللقاءان إلى وجوب دعوة نائب بعبدا مختلف هيئات الأقضية في التيار إلى لقاءات معه (وهو ما بدأ فعلاً)، في موازاة التحضير لما يشبه مهرجانات انتخابية في المتن والأشرفية وتنورين وزغرتا، قبل إجراء تقويم آخر لظروف المعركة، وحسم هوية المرشح المناوئ لوزير الخارجية الذي عهد إلى مدير الماكينة الانتخابية في التيار منصور فاضل إدارة ماكينته الانتخابية (رغم التعارض بين الوظيفتين)، ويتكل أساساً على الوزير الياس أبو صعب والوزيرين السابقين فادي عبود وسليم جريصاتي، والمنسق العام للتيار بيار رفول ومسؤولي الطلاب والجامعات. ويبدو واضحاً من ديناميكية عون وباسيل استعجالهما القيام بأكبر حركة ممكنة قبل ترشحهما رسمياً، بعد فتح باب الترشح في 20 آب، والتزامهما شروط الحملات الانتخابية التي تنظمها لجنة خاصة تمنع المرشحين من تداول الأمور الداخلية على وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي، والإدلاء بـ»أي تصريح للإعلام عن أي موضوع كان»، وتحظر تنظيم التجمّعات الحزبية.
بالطبع، الطريق إلى رئاسة التيار تمر بالرابية. ولا يشك اثنان في أن سيّدها يفضل باسيل. لكن أحداً لا يتخيل أن يتورط الجنرال في الزواريب الانتخابية عبر توزيع اللوائح أمام أقلام الاقتراع أو الاتصال بالناخبين لتزكية أحد أبنائه ضد آخر. صحيح أنّه أمّن لباسيل الظروف الانتخابية الأنسب، لكن الصحيح أيضاً أنه يريد من هذه الانتخابات القول إنه أسس حزباً ديمقراطياً تنتخب فيه القاعدة قيادتها، بدل أن يختار خليفته كغالبية الأحزاب الأخرى.
وبالتأكيد، يفضّل عون أن يفوز باسيل بقوته الشخصية ليثبت لكل المشككين استحقاقه لمواقعه، ويردّ على من يقولون إن الجنرال رشحه في البترون وعيّنه وزيراً وعهد إليه بكل الاتصالات السياسية والملفات المهمة لسبب واحد: أنه صهره. وباسيل اليوم أمام فرصة نادرة لإثبات ثقة أكثرية العونيين به، لا الجنرال فقط، والخروج نهائياً من «تهمة المصاهرة». وخلافاً لكل ما يشاع، لا أحد يتابع النبض الشعبي كما يفعل الجنرال. وهو يعلم، بالتالي، أن انتزاع باسيل رئاسة التيار خلافاً للإرادة الشعبية سيضيّع الإرث العونيّ ويجعل التيار مجرد مقرات فارغة لا تؤمن لباسيل وأصدقائه ديمومة وزارية.
وبعيداً عن لغة الانقسامات والمجموعات، يقتصر الأمر فعلياً على وجود مؤيدين لكل من جبران باسيل وآلان عون، من دون أن تسوء الأمور أكثر. ويمكن اختصار المشهد، حتى الساعة، كالآتي: في الأشرفية، يؤيد القيادي في التيار زياد عبس عون، فيما يؤيد الوزير السابق نقولا الصحناوي باسيل، علماً بأن عبس والصحناوي كانا ولا يزالان «أعز الأصحاب». في بعبدا، لم يجاهر أحد بعد بتأييده لباسيل. في عاليه، يؤيد مستشار الوزير سيزار أبو خليل الوزير طبعاً، فيما تؤيد غالبية الآخرين عون. في الشوف وزحلة الصورة ضبابية جداً. في المتن الشمالي يؤيد النائب نبيل نقولا وهيئة التيار السابقة باسيل، فيما يؤيد كنعان وهيئة التيار الحالية عون. في كسروان يسجل باسيل خرقاً كبيراً حتى الآن يتمثل باستمالة المسؤول العونيّ الأبرز في كسروان رولان خوري (كان مقرباً من نعيم عون) المؤثر في هيئة القضاء الحالية. في جزين، النائب زياد أسود في جهة عون، والمرشح جاد صوايا في جهة باسيل. وفي جبيل يصطف النائب سيمون أبي رميا وهيئة القضاء إلى جانب عون، وبعض الطامحين للفوز بكرسي أبي رميا النيابي في جهة باسيل. البترون مع باسيل، فيما يؤيد المرشح السابق إلى الانتخابات النيابية في الكورة جورج عطالله عون. وفي عكار، نجح رفول في تأمين بنية تنظيمية حاضنة بالكامل لباسيل، فيما يحظى عون بتأييد قائد فوج المجوقل السابق جورج نادر وعدة رؤساء مجالس بلدية. ولا شك في أن تقدير النتائج لا يزال مبكراً جداً، إلا أن توزيع المسؤولين على الماكينات يوحي بتقدم النائب عون في الأشرفية وبعبدا والمتن وجزين والكورة وجبيل، مقابل تقدم باسيل في البترون وكسروان وعكار.

الفائز سيمسك بالحزب
«من البابوج إلى الطربوش» والنظام الداخلي لا يسمح بالشراكة

المفاجأة الرئيسية، حتى الآن، تتمثل بتكتل النواب كنعان وأبي رميا وعون وأسود وحكمت ديب حول بعضهم. إذ كان كثيرون يتوقعون تفرق هؤلاء، أو مسايرتهم ــــ إضافة إلى زياد عبس وجورج عطالله ــــ باسيل نظراً إلى خشيتهم على مقاعدهم النيابية. غير أن ما حصل كان عكسياً: خشيتهم على مقاعدهم، معطوفة على عدم ثقتهم بباسيل، تدفعهم إلى منافسته، مدركين أنه سيستبدلهم بآخرين مقربين منه في حال فوزه. ويبدو واضحاً أن حسابات الانتخابات النيابية لا تغيب عن هذه الانتخابات الحزبية. فكثيرون يفترضون أن إثبات أنفسهم في ماكينة باسيل سيعزز حظوظهم كمرشحين على لوائح التيار في حال فوزه، كذلك يفترض آخرون أن هزيمة باسيل كفيلة بحفظ مواقعهم. فالانتخابات الحزبية ما كانت لتعني المرشح عن المقعد الكاثوليكي في المتن الشمالي جورج عبود، مثلاً، لو لم ينخرط منافسه في الترشح على المقعد نفسه إدي معلوف في ماكينة باسيل، لذا غدا فوز باسيل ــــ بالنسبة إلى عبود ــــ فوزاً لمعلوف بالترشيح، خصوصاً أن النظام الداخلي للتيار يمنح الرئيس صلاحيات مطلقة ويحرره من كل أشكال النقاش أو التصويت. فالديمقراطية تنتهي بانتخاب القاعدة للرئيس الذي يشكل بعدها مجلساً تنفيذياً خلال ستة أشهر يشرف على انتخابات المنسقين بعد ستة أشهر أخرى. ويمكن الرئيس مواصلة الترشح إلى رئاسة الحزب مدى الحياة. وهذا يعني أن الفائز بالرئاسة سيمسك بالحزب «من البابوج إلى الطربوش»، ولا مجال، وفق النظام الداخلي، للشراكة أو حتى النقاش.

هل من تسوية؟

يبدو أفق التسويات ضيقاً لعدم ثقة النواب بباسيل أولاً، ولعدم توفير النظام الداخلي أي ضمانات جدية لهم ثانياً، ولثقتهم بأن وزير الخارجية لن يلتزم وعود الجنرال لهم ثالثاً. أما خطاب آلان عون التنظيمي، فيرتكز على وجوب استيعاب الجميع وعدم استبدال رموز التيار برجال الأعمال، فيما يتكبد باسيل عناء تبرئة نفسه من الوهن الذي أصاب التيار في السنوات القليلة الماضية في النقابات والجامعات والمناطق، محيطاً نفسه بمسؤولي النقابات والطلاب والمناطق.
ضغط باسيل، قبل بضعة أشهر، لإرجاء استحقاق التيار الانتخابي السابق بحجة عدم تشتيت التيار وإلهائه بنفسه. واليوم، يحتمل أن يلجأ الجنرال إلى الخيار نفسه مجدداً، في حال تفاقُم حدة التنافس، وإن كان المعنيون مباشرة بالسباق يؤكدون استعدادهم لالتزام ضوابط اللعبة الديمقراطية. غير أن متابعين عن بعد، بحب وقلق، لما يحصل في التيار يشددون على أن أول رئيس منتخب للتيار الوطني الحر لا يمكن أن يكون غير ميشال عون، خصوصاً أن صلاحيات الرئيس المطلقة أُقرت باعتباره هو الرئيس. يمكن نائبيه أن يريحاه من تعاظم مسؤولياته، لكن لا يمكن أحداً غيره أن يُحضر الجميع إلى مكتب سياسي حقيقي، ويؤمن التساوي المفقود اليوم بين المحازبين في الحقوق والواجبات وخضوعهم لأكثر من تجربة انتخابية قبل إلزامهم بكابوس انتخاب مرشح غيره رئيساً للتيار الوطني الحر. أما إذا أصر على موقفه، فليس أمام المناوئين لباسيل سوى مرشح واحد قادر على حسم المعركة قبل 20 أيلول بكثير، لثقة جميع العونيين من دون استثناء به، ولاستحالة تسجيل أية ملاحظة سلبية عليه، ريثما يتقاعد العميد شامل روكز ويصبح قادراً على خوض الانتخابات. اسم المرشح هو: اللواء نديم لطيف.




الحالة العونية لا تورّث

كثيراً ما يسأل خصوم التيار الوطني الحر ــــ بنية سيئة ــــ عن مصيره «بعد عمر طويل» للجنرال. السؤال نفسه يطرحه أيضاً ــــ بنيّة طيبة ــــ حلفاء التيار وأبناؤه. فالحالة العونية أكبر بكثير من زعماء المناطق أو الأحزاب المهترئة التي تودع رئيساً بالتطبيل والتزمير لتستقبل ابنه بالطريقة نفسها. هناك ما لا يستطيع أحد توريثه أو وراثته: مسيرة الجنرال الحافلة، اطمئنان حلفائه إلى ثباته السياسي، استيعابه غالبية أبنائه، ثقة الرأي العام العوني بنظافته وصدقه، قدرته على إقناع جمهوره بوجهة نظره، وأخيراً تمتعه برؤية استراتيجية صائبة. من هنا، دعا عونيون كثر، في السنوات الأخيرة، الى إنشاء مؤسسة حزبية تسمح بتكوين مجلس قيادي يتعاون من خلاله الوزراء والنواب ورجال الأعمال والمؤسسات الإعلامية ومنسقو الأقضية والقطاعات وغيرهم من المعنيين باستمرارية التيار. إلا أن هذه الدعوات لم تلقَ صدى: تكتل التغيير والإصلاح توسّع ليتحول إلى ما يشبه لقاء الأربعاء في عين التينة، إذ تطغى فيه الدردشات وأسئلة النواب شبه الصحافية على وضع خطط عمل سياسية ومناطقية؛ العلاقات بين المسؤولين العونيين ازدادت توتراً حتى بات يستحيل في قضاء (غير بعبدا) إيجاد نائبين عونيين يحبان بعضهما، من دون الدخول في العلاقة الملعونة بين بعض النواب والوزراء؛ وفي موازاة الاكتفاء بتحويل التيار مناطقياً ونقابياً من حزب سياسي مفترض إلى مجرد ماكينة انتخابية (مجمّدة)، يدير الوزير جبران باسيل وحده كل الملفات السياسية من دون إشراك أحد. وفي معزل عن أسماء المرشحين، أمام العونيين خياران: الأول مشابه لحزبي الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية والقوات اللبنانية (بعد اغتيال بشير الجميل) حيث يفوز أحد المحظيين بمقار الحزب ونظامه الداخلي من دون جمهور، وتنبثق هنا وهناك تجمعات معارضة. أما الثاني فيتسع لكل من يرغب في العمل السياسي أو الإنمائي أو الحقوقي أو الخدماتي في إطار مؤسساتي واضح، في ظل علاقة متينة بحلفاء التيار الحاليين بدل استفزازهم بعدم التنسيق معهم والانفتاح على خصومهم دون إعلامهم حتى. وفي ظل طيّ صفحة الأحقاد المتبادلة بين ميشال عون وسمير جعجع، يمثل النموذج الثاني فرصة جدية لمواكبة جيل لم يعد يكفيه أن يكون ضد جعجع ليكون عونياً؛ لا بد من مشروع سياسي ــــ إنمائي ــــ خدماتي يشعره بأنه شريك فيه لا مجرد مصفق له يجذبه إلى التيار حتى ينتسب إليه.