دولة «العتبة النووية»، مصطلح يصر الكثيرون على استخدامه في الحديث عن إيران، قبل اتفاق فيينا وبعده. الهدف ربما، هو تبخيس الإنجاز الإيراني والتخفيف من وهجه. والحقيقة التي يحاول هؤلاء تغييبها، هي أن إيران، التي لا تمتلك قنبلة نووية، دولة في داخل النادي النووي، علماً وعلماء وخبراء وإنتاجاً ومفاعلات وتخصيباً ومراكز أبحاث... الخ، قادرة على إنتاج القنبلة خلال فترة وجيزة. وهي حقيقة تعرفها واشنطن، ولم يكن لديها مخرج سوى التفاوض والاعتراف بحق طهران في تطوير برنامج نووي سلمي، والإقرار بأن إيران قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، خصوصاً أن الخيار العسكري ليس ممكناً، وهو لم يعد مطروحاً، لأنه يعني مآزقَ أكبر وأخطر، على الأميركيين وعلى حلفائهم في المنطقة والعالم.
مع ذلك، فإن الطريق إلى علاقات عادية بين إيران والولايات المتحدة، ما زالت طويلة ومليئة بالعوائق، ولا ضمانة في أن يساعد الاتفاق في تمهيدها، والصراع بينهما مرشح للاستمرار. مصالح الجانبين تتناقض وتتصادم في كل بقعة وعلى كل مستوى، في السياسة والإيديولوجيا وفي المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولتان، وفي الأهداف الكبرى للنظامين. وليس هناك ما يشير إلى أي اتفاق أو تقارب بينهما، بشأن أي من هذه النقاط الجوهرية.
لا شك في أن الطرفين يحتاجان إلى اتفاق فيينا وسعيا بجدية لإنجازه

لا شك في أن الطرفين يحتاجان إلى اتفاق فيينا، وسعيا بجدية لإنجازه، وما كانا قادرين على تحمل إعلان الفشل. براغماتية الأميركيين، وحرص الإيرانيين على طمأنة المجتمع الدولي، ساعدا في التوصل إلى نتيجة، يمكن وسمها بالإيجابية. لكن ذلك لا يلغي كون الملف النووي واجهة لقضايا خطرة ومعقدة، عالقة بين الجانبين، وعنواناً فرعياً لصراع قاسٍ وممتد، وأوضح تجلياته في الشرق الأوسط، وخصوصاً في فلسطين والعراق وسوريا والخليج واليمن ولبنان... الخ.
التفاوض مع إيران، كان وما زال، حاجة أميركية ملحة، بسبب مأزق الولايات المتحدة، الناجم بشكل أساسي عن أزمتها الاقتصادية، فضلاً عن الحروب التي استنزفت الخزينة والمجتمع الأميركيين، وتراجع نفوذها في المنطقة والعالم، وعجزها عن فرض التسويات أو شرائها. في مقابل عودة قوى سياسية، وبروز تكتلات اقتصادية تنافسها على مستوى العالم (الصين، وروسيا، ومجموعة البريكس)، ودول أخرى تتمرد بوضوح على الإرادة الأميركية، خصوصاً في أميركا اللاتينية، حديقتها الخلفية.
كان لدى واشنطن، ومعها الغرب، خياران: الأول، هو المواجهة مع إيران، وهو ما تدفع باتجاهه مراكز تأثير وضغط داخل الولايات المتحدة، ومعظم الحلفاء خارجها. والثاني، هو التوصل إلى اتفاق يرضي طهران، لكنه يغضب حلفاءً أوروبيين، وإقليميين على رأسهم إسرائيل. فقنبلة نووية إيرانية، ليست هي مصدر «الخطر» بالنسبة لهؤلاء، بل نجاحها في تطوير قدراتها العلمية والعسكرية، وخصوصاً الاستراتيجية منها، ودعمها غير المحدود، وغير المشروط لقوى المقاومة. وهم يخشون أن تصبح إيران (بعد رفع العقوبات) أكثر قدرة على المناورة، عسكرياً وسياسياً، ومجال حركتها أكثر اتساعاً، مع ما يعنيه ذلك من تعزيز فكرة السيادة والتحرر لدى شعوب المنطقة.
المطلوب أميركياً، أولاً، تقييد قدرة إيران على تطوير قوتها وإمكاناتها، ووضع رقبتها تحت مقصلة آليات وإجراءات قانونية دولية وأميركية، يمكن استخدامها حين تعتبر واشنطن ذلك مناسباً وضرورياً.
ثانياً، استغلال فتح باب الاستثمارات الأجنبية المباشرة للدخول إلى إيران، عبر الشركات والبنوك والمؤسسات الاقتصادية «الدولية» والأميركية، والإمساك باقتصادها وربطه بعجلة سوق تهيمن عليها الولايات المتحدة، مع ما يرافق ذلك من دخول منظمات «غير حكومية» و«مجتمع مدني» و«حقوق إنسان» وغيرها من منظمات، هي من مستلزمات الحرب الناعمة، لإسقاط النظام، أو إضعافه وتحجيمه، ولتشديد الحصار على روسيا والصين.
ثالثاً، تدرك واشنطن، أن العقوبات والحصار، ليست دائماً سلاحاً فعالاً في منع الدول من تطوير برامج، وانتاج أسلحة نووية. والصين والهند وباكستان أمثلة حاضرة، ولكن المثال الأبرز هو كوريا الشمالية، الخاضعة لحصار وعقوبات أكثر تشدداً وقسوة. كما تدرك الإدارة الأميركية ومراكز القرار في واشنطن، أن أي حرب على إيران لا يمكن حسمها من دون تدخل بري واسع، وهي خطوة تحتاج إلى معجزة لتحقيقها، من دون التسبب في كارثة لا قبل للعالم بها.
رابعاً، همّ الولايات المتحدة، اليوم، هو التوجه إلى آسيا، حيث «العالم» والأسواق والاستثمارات والمستهلكين والاستقرار. لكنها تريد الاطمئنان إلى أمن حلفائها ومصالحها ونفوذها في المنطقة قبل مغادرتها. وتريد تأمين مشاركتهم الفعالة في مراكز القرار والقوة فيها. وهي تحتاج إيران المستقرة، لكن «المدجنة»، في معاركها ضد تيارات الإرهاب والتكفير التي تهدد أوروبا والعالم، على رغم أنها تدعم هذه القوى اليوم، للضغط على طهران ومحور المقاومة لتمرير مشروعها في إعادة رسم خرائط المنطقة العربية.
خامساً، تعتقد الولايات المتحدة أن إنجاز تسويات مريحة، مع إيران وروسيا، ستمكنها من تحييد مصالحها وحفظ نفوذها، وتضع الدولتين إحداهما في مواجهة الأخرى، في صراع على النفوذ والمصالح في المناطق التي تدافعان عنها اليوم جنباً إلى جنب، فالمجال الحيوي للدولتين هو نفسه في المنطقة. كما تراهن على التحشيد العربي ضد إيران، وعلى صراع إيراني تركي لمزيد من الإنهاك. فالصراع التاريخي بين الأمتين الذي أدى إلى إضعافهما في الماضي، حاضر في عقل المخطط الأميركي، كما تحضر تجربة إسقاط الاتحاد السوفياتي، بالحرب الناعمة في أوروبا الشرقية، وباحتواء الصين اقتصادياً وسياسياً.
مرشد الثورة الإسلامية في إيران، السيد علي خامنئي، قال مخاطباً طلاب الجامعات: «استعدوا لمواصلة نضالكم ضد الغطرسة العالمية، بعد المحادثات النووية، لأن محاربة الاستكبار من تعاليم القرآن ومبادئ الثورة». هو خطاب يعبر تعبيراً واقعياً وحقيقياً عن طبيعة الصراع بالنسبة لإيران. فالأميركي لن يألو جهداً في سبيل إخضاع إيران، باتفاق أو من دونه. وإيران لن ترضخ لمحاولات إخضاعها، ولن تقبل بالالتفاف على مبادئها وثوابتها لإعادتها إلى الحظيرة الأميركية، رغم حاجتها الماسة لرفع العقوبات، ورغبتها القوية في فك الحصار.
إيران استثناء فريد في العالم، ومفارقة نادرة، فرغم الحصار المفروض عليها من أميركا ومعظم دول العالم، منذ عقود، إلا أن الولايات المتحدة تجد نفسها مضطرة للتفاوض معها نداً لند. وهي حققت، رغم العقوبات، إنجازات هائلة، ولم يَحُد الحظر والحروب الناعمة والخشنة المفروضة عليها، من قدرتها على توسيع نفوذها ودائرة حلفائها، بشكل استثنائي، لتصبح اللاعب الأول والأقوى في المنطقة. فكيف إذا رفعت عنها العقوبات، وفتحت أمامها الآفاق والأسواق؟ القيادة الإيرانية، وخلفها الحرس الثوري، بنفوذه في النظام السياسي والاقتصاد والمجتمع، سيحولان دون تمكين أي استثمارات أجنبية من تقييد اقتصاد البلاد، ولن يسمحا ومعهما روسيا والصين بإسقاط النظام، أو إضعاف الدولة في إيران. ولا يرى الإيرانيون مصلحة في مشاركة الأميركي وحلفائه في مناطق يملكون هم وحلفاؤهم ناصية القرار فيها، خصوصاً في سوريا والعراق، حيث الصراع مع الأميركي مرشح للتصاعد. فللبلدين، مع لبنان، أهمية استراتيجية لا تسمح بتنازلات جوهرية يحاول الغرب وحلفاؤه فرضها.
لا شك في أن اتفاق فيينا، سيضع ميزاناً جديداً للقوة في الشرق الأوسط، وسيحدد مصير ومآلات القوى الفاعلة والمتحركة فيه. لكن اتفاقاً، يراد له أن يعيش، يقتضي تنازل الطرفين عن أي أهداف استراتيجية تتعارض معه. وهذا غير ممكن في ظل انعدام الثقة بين الجانبين، خصوصاً أن لدى الإيراني ما لا يحصى من الأسباب التي تجعله يشك في صدق التزام الأميركي بتعهداته. ويُستبعَد أن تتحمل الولايات المتحدة طويلاً، اتفاقاً يرضي إيران، ويزعج اليمين الأميركي، ومعاقل الصهيونية، ومراكز القرار، السياسي والاقتصادي، خارج البيت الأبيض، كما أن حلفاء واشنطن، جميعهم، ضد أي اتفاق مع طهران. وليس صحيحاً أنهم يعارضون إيران نووية، هذه آخر اهتماماتهم، إذ كان مسموحاً لإيران الشاه بناء وتطوير برنامج نووي. هم يريدون إيران مدجنة وخاضعة ومنشغلة مع الدول الاستعمارية بتسويات ضد شعوب العالم وقواها الحية. وليس مستبعداً قيام هؤلاء الحلفاء وأدواتهم بتحركات خطيرة ومباشرة ضد إيران وحلفائها، بعد هذا الخرق في معسكرهم.
لن تشبه المنطقة نفسها بعد الاتفاق، وقد تشهد، ومعها العالم، مرحلة جديدة من المواجهات. فأقصى ما يمكن أن يستقر عليه الجانبان، هو «اتفاق» يشكل غطاءً لتفاهمات حول قواعد اشتباك جديدة، لا تنهي الصراع، لكنها قد تخفف من وتائره، إلى أن ينتصر أحد المحورين فيفرض شروطه على الجميع. وفيما يبقى السؤال حول قدرة هذا الاتفاق على «الصمود أمام اختبار الزمن»، ينبغي أن لا يشك، أصدقاء إيران، وأعداؤها، بموقفها وجدية خياراتها الأصلية، فهي دولة فتية في لحظة صعودها، ومستقبلها في الأفق، فيما أصبح مستقبل معظم أخصامها ماضياً.
* صحافي لبناني