لا تكاد معامل صك العقول تهدأ حتى تعود ماكيناتها للعمل من جديد، تلك الماكينة التي تجيد الدولة تشغيلها كلما احتاجتها لإعادة ضبط الإيقاع وتوجيه الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك. هي آلة لا تتعطل، حتى وإن ظهرت في صورة المتهالكة والمتقادمة.تشتغل الماكينة فجأة من دون أن نشعر، هكذا من دون سابق إعلان، حتى نجد أنفسنا داخل المعمعة، نحمل سلاحاً ونحارب في معركة صنعت على حين غرة... لا نعرف حتى متى بدأت ولا كيف، ثم يصبح الخوف من الآخر سيد الموقف، لنصبح وكأننا إزاء مسألة وجودية يتحدد معها مصيرنا، كأننا على أعتاب حرب أهلية، فيضحي إعلان العداء للطرف المقابل واجباً.

في الساحة يقف فريقان متنافسان كل منهما يلعن الآخر ويتوعد بأن يخرج من الحرب منتصراً في مباراة صفرية لا تنتهي إلا بالإلغاء التام للآخر. قد لا يبدو هذا المشهد مناسباً لحالة مغربية معقدة ومركبة يستعصي معها استنساخ نماذج سيئة من الاستقطاب الإيديولوجي الحاد داخل المجتمع بين مشاريع سياسية وفكرية متضاربة تنتهي إلى نهايات مؤلمة، لكن على ما يبدو هكذا تريد ماكينة الدولة للمشهد المقبل أن يكون، بل ويظهر أنها هذه المرة تريد الذهاب إلى الحد الأقصى في صناعة صورة المرحلة ومستعدة لدفع أي ثمن، وحتى لو بدا أن الأمر مجرد بالون اختبار سخيف فإنه لا يتعين الاستخفاف بما قد يرشح من نتائج عن هذا اللعب المجنون.
تتميز هذه الآلة بقدرتها الفائقة على اقتناص الحوادث الهامشية وإخراجها في قالب سينمائي درامي، يجب الاعتراف أنهم بارعون في تحوير مسارات الوقائع في اتجاهات غير متوقعة وهستيرية. حتى أعتد المنجمين ربما لم يكونوا قادرين على أن يتوقعوا أن نفيق في رمشة عين على ولادة هذه المعركة الطارئة بين «المحافظين» و«الحداثيين» التي نبتت من العدم. والمشكلة هنا ليست أبداً في الصراع القيمي والتدافع المشروع حول النماذج المجتمعية المختلفة، فهو أمر كان قائماً دائماً وسيظل حاضراً، بل هو حراك صحي، لكنه يتحول إلى لعبة قذرة مكشوفة حينما تجري محاولة الركوب عليه بشكل فج وتصريفه سياسياً من طرف الطبقة المهيمنة سياسياً واقتصادياً كما جرى خلال واقعتي احتجاز شابتين في مدينة انزكان من طرف الشرطة بسبب لباس اعتبر «مثيراً» والاعتداء بالضرب على شاب مثلي في مدينة فاس من طرف المارة.
صحيح أن حواضن «التطرف الديني» الميال إلى العنف كامنة في المجتمع المغربي، وهو أمر لم يعد ممكناً إخفاؤه، لكن وجب القول أيضاً إن ذلك راجع إلى عوامل كثيرة لا تجرؤ ماكينة الدولة وأخطبوطها الإعلامي على الاعتراف بها، لا تستطيع أن تقول إن جزءاً كبيراً من هذا العنف مرده سياساتها الاقتصادية والتعليمية والأمنية.
المشهد ليس جديداً علينا، ولا يبدو أن ثمة في الأمر لغز. إنه الصندوق نفسه الذي ينتج العجب، ذات الأدوات التي توجه المشاعر وتنتج الخطابات العاطفية، فيستنفر الإعلام العمومي فجأة كل إمكانياته لتغطية حادثة إنزكان بإسهال كبير في نشراته الإخبارية لم تحظ بها أحداث كان حجم فداحتها أعظم، ليستغل بدهاء تلقائية المهلوعين من خطر المساس بالحريات وولوج «الداعشية» إلى الجسد المغربي، لنصل إلى صورة مغشوشة يختلط فيها بداية التضامن المشروع مع ضحايا التضييق على الحريات الفردية بمحاولات التسييس، ثم نصبح عند اكتمال الصورة أمام تسلل «الطائفة المحتكرة» واستحواذها على الكلمة بشكل مطلق: أحزاب الدولة وجمعياتها وصحفها الخاصة تصرخ في الفضاء العام موجهة نيرانها إلى الإسلاميين الذين يقودون حكومة لم تخرج عن منطق «تسيير الأعمال» التي درجت عليه الحكومات المغربية الرازحة تحت سلطة القصر منذ عهد الاستقلال، لتحملهم مسؤولية تزايد «المد المتطرف».
توارى الأنقياء وظهرت كل العصابة تهذي وتصرخ بشكل مرضي ومضحك، هؤلاء الذين لم يدافعوا أبداً عن التنصيص على «الدولة المدنية» ولا «حرية المعتقد» في الدستور وطبلوا مراراً للطقوس القروسطوية في احتفالات البيعة السنوية ينصبون أنفسهم كمدافعين عن قيم الحداثة، حداثويو البلاط بثقل دمهم وانتهازيتهم التي لا يضاهيها سوى صفاقة كتيبة الليبراليين العرب المدافعين عن تخلف مملكة القرون الوسطى السعودية.
يمكننا بسهولة أن نشاهد كيف أن الخطاب الفاشي المنتمي زوراً إلى معسكر «الحداثة» قد بدأ يتصاعد شيئاً فشيئاً في وسائل الإعلام التي تحتكرها مراكز النفوذ المالي والسياسي. خطاب تفوح منه رائحة الكراهية والعداء، ويمتح من خطاب اليمين المتطرف في الغرب، إعلام موهوم يصطنع المعارك والصراعات من وحي خياله ويقسم الصف الوطني إلى قسمين على هواه، يتعمد إشعال الحرائق والإيحاء بأننا «الحرب قد بدأت» فعلاً بين فريقين وعلينا اختيار معسكرنا بسرعة كما قال ذلك بشكل واضح عنوان إحدى المجلات الأسبوعية، أو يذهب بشكل أكثر وقاحة إلى استعارة فاضحة للإسلاموفوبيا الغربية من خلال الخلط بين التدين والتأويل المتشدد للنصوص الدينية الذي يتبناه المتطرفون، وبمثل هذا الخطاب الأرعن الفاشي تحاول مصانع تزييف العقول استمالة الإسلاميين الأكثر اعتدالاً أو لنقل «المحافظين» إلى المواجهة المباشرة التي لن يكون فيها مكان للحلول الوسطى فتكتمل بالتالي توابل الوجبة ونكون أمام تحقق للبروباغندا التي تجرى محاولة تمريرها لإنتاج واقع جديد قبيل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
ما يجري في الحقيقة ليس سوى إعادة لواحدة من المسرحيات الممسوخة التي تقترحها علينا ماكينة الدولة، لكي نقر بشكل «ستوكهولمي» بحاجتنا الماسة إلى الفاعل الوحيد الحكم بين كل الأطراف، والقادر على الحفاظ على توازن المجتمع وحمايته من صراعاته وضمان استقراره. في نهاية المطاف القصة كلها يمكن تلخيصها في هوس قديم لدى السلطة بتذكيرنا الدائم: كم نحن عراة من دونها، ولإثبات ذلك لا ضرر بالنسبة لها في افتعال المعارك وجر ما يكفي من حطب الحرائق للانخراط في قطيع ينشد كورالاً رديئاً ويصفق للكراهية المتبادلة بعد أن يتعزز الشعور بعدم الثقة، فنصبح رهائن لكهنوت سلطوي يقدم نفسه على أنه الخيار الوحيد والأوحد لتفادي الانزلاق إلى الانقسام، لعبة قديمة تقدم نفسها في شكل أنيق.
* صحافي مغربي