«جينغ ــــ جين ــــ جي» هو الاسم الذي يستخدم في الصين للاشارة الى المثّلث التي يضمّ العاصمة الصينية، بيجينغ، ومدينة تيانجين الساحلية شرقاً، ومدينة هيبي الى الشمال (الاسم مؤلف من الأحرف الأخيرة لكل مدينة، وهيبي يدعوها الصينيون، اختصاراً، «جي»). بحسب التقارير الصحافية، فإن الحكومة تخطط لوصل وجمع هذه المدن الثلاث (التي تحوي اليوم أكثر من 120 مليون نسمة)، وتحويلها الى أكبّر تجمّع مديني في العالم.
ستشهد الصين أكثر من مشروعٍ مشابه لخلق رقعٍ مدينية هائلة تحيط بمراكزها الكبرى، منها واحدة على دلتا نهر اللؤلؤة في الجنوب (حيث تتجاور غوانغزو وهونغ كونغ وماكاو)، وأخرى في دلتا نهر اليانغتسي، حول مدينة شانغهاي. هذه الخطط، يقول المسؤولون الصينيون، تطمح الى استيعاب المزيد من المهاجرين صوب المدن، واستغلال امكانياتها بالشكل الأمثل. «جينغ ــــ جين ــــ جي»، مثلاً، ستجمع بين الأهمية الوطنية للعاصمة، وجامعاتها ومؤسساتها البحثية، ومرفأ تيانجين النشط، والصناعات التي تشتهر بها هيبي.
الا أنّ الهدف الأساس من هذه المشاريع، وحماس الحكومة لبدء تنفيذها في هذا الوقت بالذات، يتعلق بالقيمة التجارية والعقارية التي ستنتج عنها، في ظلّ تباطوء النموّ الصيني، وانهيار البورصة المحلية، واشارات مقلقة اخرى (تمّ سحب مئات مليارات الدولارات من الأرصدة الحكومية الصينية في الخارج خلال الأشهر الماضية، وهذا، في نظر العديد من المحللين، دليلٌ على هروب رؤوس الأموال من البلد، ما جعل المصرف المركزي في حاجة الى طلب العملة الصعبة من أرصدته الخارجية).
في مقدّمة النسخة الانكليزية من كتاب «سجلّ بيجينغ» للصحافي الصيني وانغ جون، عن تاريخ العاصمة وتحوّلاتها تحت الحكم الشيوعي، يكتب المعماري الأميركي توماس هان أنّ المنظّرين الشيوعيين الكبار، من ماركس وانجلز الى لينين وستالين، لم يكتبوا في مجال تنظيم المدن وتخطيطها، فلم يكن هناك رأي «أورثوذوكسي»، أو نظرية عن «المدينة الشيوعية»، حين وجد الحزب الشيوعي الصيني نفسه على رأس الدولة. فكانت العاصمة بيجينغ، هندسياً، تعكس في كلّ مرحلةٍ من تاريخها الحديث الهمّ السياسي للحكّام، وعلاقتهم المتغيرة بالرأسمالية والسوق (وهذا ينطبق ايضاً على المعمار والجماليات: يكتب ايان جونسون أن الشيوعيين ملأوا عاصمتهم، في الخمسينيات، بمبانٍ ستالينية الطراز تشبه مثيلاتها في موسكو، ثمّ في السبعينيات، مع الخروج من المحور السوفياتي، أضافوا صفات «صينية» اليها، كالسقوف المائلة وتصميم «الباغودا»؛ ومنذ التسعينيات، مع اندماج الصين في السوق الدولية، صارت الأبنية الرئيسية الجديدة في العاصمة تحمل تواقيع معماريين عالميين وتصاميم «ما بعد حداثية»).
حين استلم الشيوعيون المدينة الامبراطورية عام 1949، يروي وانغ جون، توسّل اليهم أهم معماريي الصين يومها، ليانغ سيتشنغ (وهو كان من جيل الاصلاحيين الصينيين الذين برزوا في أوائل القرن، ومن أول المعماريين المحليين الذين تدربوا في الغرب) حتى لا ينقلوا مؤسساتهم الادارية اليها. أرسل سيتشنغ مخططاً بديلاً الى زو انلاي، يدعوه فيها الى الاقتداء بنموذج «باريس الكبرى» وغيرها من المدن الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تمّ تطوير المدينة عبر البناء خارج مركزها التاريخي، ونقل الكثير من المؤسسات الادارية والصناعية الى احياء جديدة خارجها. حذّر سيتشنغ، في رسائله، من أن كمّ الاداريين الصينيين الذين سينتقلون الى المدينة القديمة، اذا ما أصبحت عاصمة بيروقراطية، سيحتاج الى استحداث مساحات مبنية أكبر من «المدينة الامبراطورية» بكاملها، ما سيؤدي الى نهاية بيجينغ التاريخية.
الّا أن القيادة الشيوعية، يومها، فضّلت نموذج «هوسمان»، الذي بنى «باريس الحديثة» ـــــ في القرن التاسع عشر ــــ على انقاض تاريخها. لأسباب سياسية، أصرّ الحكام الصينيون على اقامة وزاراتهم واداراتهم في مواجهة «المدينة المحرّمة»، لتحتل المباني الضخمة الجديدة أكثر بيجينغ القديمة، وقامت هذه الأحياء، والبولفارات والساحات العامة، على أنقاض مبانٍ تاريخية، وبوابات المدينة، ومعابد عمرها ألف عام، ومنازل وزراء العهد الامبراطوري؛ حتى أن سور المدينة قد هُدم وصار مكانه الطريق الدائري الثاني حول العاصمة (تحيط ببيجينغ، اليوم، ستة اوتوسترادات دائرية، والسابع في طور البناء).
مشروع المدينة الكبرى، جينغ ــــ جين ــــ جي، سيبتدىء بنقل هذه البنى الادارية الى ضاحيةٍ غرب العاصمة، كما أوصى ليانغ سيتشنغ قبل أكثر من نصف قرن، ولكن بعد أن زالت أكثر بيجينغ القديمة، بأزقتها الكثيرة المتشعبة، ومنازلها المميزة التي تقوم حول فناءات تملؤها الأشجار. يقول وانغ جون أن العاصمة كانت تحوي سبعة آلاف «هوتونغ» ـــــ زقاق ـــــ عام 1950، تقلصت الى 3,900 عام 1980، مع مئاتٍ اضافية تهدم كلّ سنة.
كتب أكاديمي صيني عن شعوره بالأسى حين قالت له صحافية ايطالية أن بيجينغ الحديثة هي «تقليد سيء لهونغ كونغ» (اعتبر أن مقارنة عاصمة «مملكة السماء» بمدينة طرفية حديثة هو في حد ذاته اهانة). الا أنّ المدينة، في الحقيقة، تعبّر عن اختلاف الحقبات، وتغيّر نظرة الحكّام تجاه عاصمتهم: هي كانت، بالنسبة الى القيادة، «رمزاً» سياسياً في الخمسينيات، ثمّ نموذجاً للنمو الرأسمالي في التسعينيات؛ وهي اليوم، أساساً، مشروع توسّع عقاري يجذب الاستثمارات والنمو.