يحكى في صالونات بيروت أن نظاماً خليجياً شهد منذ أشهر تغييراً في قيادته بحكم الوفاة. فدخل مذذاك في سلسلة من التعقيدات السياسية والعسكرية والمالية والعلائقية، لم تنته بعد. نزاع صامت بين أصحاب القرار السابق ومن آلت إليهم كل القرارات اللاحقة، حول توزيع الثروة ومحاصصة المغانم ومقاصة التركة وحصر إرث الرعايا والسبايا... الذين تولوا السلطة بعد التغيير، رفضوا تحميل نظامهم وسلطتهم تبذيرات من كان قبلهم.
وأبلغوا الأولياء السابقين، أن ما أغدقوه في زمن ولي نعمتهم الراحل، لن يحتسب من بيت مال النظام. بل سيسجل على حسابهم الخاص، وعليهم إما أن يسددوه من جيوبهم، وإما أن يشطب من التزامات العهد الجديد. وفي هذا السياق بالذات، يحكى في صالونات بيروت أيضاً، أن «مكرمة» بنحو أربعة مليارات دولار كانت مخصصة لسلاح مزعوم، توقفت للأسباب نفسها. قيل للمعنيين: نحن لم نلتزم بشيء. فليتفضل من وعد بأن يفي من حسابه. أما بيننا وبينكم فلا حساب سابقاً من أمس، وكل قيد في ما بيننا يبدأ اليوم...
المهم، يحكى في صالونات بيروت، أنه نتيجة هذه المعادلات الجديدة، بدأ التقنين يصيب قنوات المال المستجلب من ذلك النظام الخليجي نحو وكلائهم في البلدان المختلفة، ومنها لبنان. فبدأت تشح موازنات رئيسين سابقين للحكومة اللبنانية، حتى بدت على تركيبتهما مؤشرات الأزمة المالية وندرة السيولة. عندها تنبه فريق أحدهما إلى ضرورة شد الحزام، وضبط الهدر الداخلي والخارجي. وتنبه أكثر إلى ضرورة العودة للبحث عن موارد أخرى، خصوصاً تلك التي كانت متروكة لأعوام، تنفيعات عامة لجهات خاصة محسوبة عليهما. هكذا في مرحلة «التعفير» على بيادر أيام المُحل المستجد، برز على شاشات التدقيق بند متروك منذ 18 عاماً، اسمه منجم النفايات اللبنانية. قبل الأيام العجاف الراهنة، كان مزراب ذهب الزبالة متروكاً لشركة وزمرة وبضعة أزلام، يقتطعون منه نحو 150 مليون دولار أميركي سنوياً. وفي زمن البقرات الحلوبات، كان هذا الرقم مجرد نثريات، لا يلتفت إليه صاحب دولة، ولا يهتم به زعيم طائفة بحجم المنطقة. لكن الأيام تغيرت. والشح مذل. فاستدار الرئيسان نحو ما كان فتاتاً منثوراً سابقاً. فكر أحدهما: هذه الشركة من الآن فصاعداً، لي أنا. وعائداتها تصب في حسابي الفارغ. رفض الرئيس الثاني بصمت. وظل يعمل وكأنه لم يسمع بالتعليمات الجديدة. جاء وقت الحساب، فاصطدم الرجلان. دخلا في كباش غير مسبوق على جعالة النفايات. قرر أحدهما إبعاد الآخر. فرد الثاني بمناورة معقدة، أدت إلى تهديد الشركة ــــ المنجم في عقدها ــــ المزراب وفي استمراره. حاول الأول نقل الجهة المنتفعة من شخص محسوب على منافسه إلى شخص آخر محسوب عليه. قطع عليه الرئيس الثاني الطريق. قيل إنه استدعى المناقص المنافس، وأفهمه أن اللعبة أكبر منه، وأن عليه البقاء خارجها. جعله يفهم أن من يحرّكه أعجز من أن يحميه، إن في بيروت أو في موقع القرار الخليجي. صارت حسابات الرئيسين المكتومة ــــ المكشوفة، على الشكل التالي: أحدهما راهن على نقل العقد إلى «زلمته». الآخر راهن على منع المناقصة، بحيث يضطر الجميع إلى إبقاء القديم على قدمه والمنتفع على مرجعية انتفاعه... فيما الرئيسان مشغولان بمعركتهما تلك، تنبه آخرون إلى المنجم الوسخ. فكروا أنه طالما الأمر على هذه الحال، فلنجعلها فرصة للخلاص من الاثنين معاً. نقفل عليهما مصبّ المزراب، أو المطمر، فيصير الاثنان تحت رحمتنا. نفاوضهما على شروط جديدة، فإما أن نصل إلى «حل بيئي»، وإما نأخذ لمنطقتنا واردات لتنميتها في انتظار أيام فضلى. وإما، في أسوأ الأحوال، نعيد فتح المصبّ ــــ المكب، في شكل موقت وأكثر نظافة. مشى الجميع في اللعبة كما على حبل مشدود. كل منهم يحسب نفسه رابحاً في آخر المطاف. حتى انفجرت الأزمة وسقطوا كلهم. تحت وطأة اندلاعها، حاول الأطراف التوصل إلى تسوية على النار. لكن عنصراً مفاجئاً وغير محسوب دخل على اللعبة. فجأة تحرك شيء اسمه رأي عام. بشكل مباغت، تبيّن للجميع أن موازين القوى في منطقة المصب ــــ المكب، باتت خارج الضبط. كان ثمة انطباع أن الأفرقاء المعنيين «يمونون» على الأرض هناك. لكل منهم ثلث الحجر كما البشر. فكانت الصدمة أن الناس تمرّدوا. قطعوا الطريق ورفضوا. وكادت انتفاضتهم تستجلب أبعاداً جديدة للأزمة. دخلت عليها عوامل الحسابات والحساسيات المذهبية، وأضيفت إليها تعقيدات المحظور من قطع طريق بيروت ــــ صيدا. فتراجع الجميع، وتعثر الحل النظري المعوّل عليه، لإعادة توزيع المنجم بالشكل العادل ...
هكذا يحكى في صالونات بيروت، أن ألاعيب صغيرة أدخلت سلطة هشة مترنحة متداعية أصلاً، في أزمة كبيرة. لا بل قد تلامس حدود المأزق الذي لا حل له، في المدى الآني والفوري على الأقل. ثبت في النهاية أن النفايات، مثل الفحم أو النار أو الزيت المحروق أو السلاح، لا يمكن اللعب فيها من دون تركها أثراً وضرراً ووسخاً وأذى!