تتقاطع معلومات المتابعين للاتصالات السياسية التي جرت داخلياً في اليومين الاخيرين، مع ما يصلهم من أجواء إقليمية تتفاعل تدريجاً منذ الاتفاق النووي، وترخي بثقلها تباعاً على لبنان. وفي المحصلة، فإن القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في مجريات المرحلة، بدأت تستشعر قوة العاصفة الاقليمية التي قد تضرب مجدداً، على وقع تدخل تركيا في سوريا وإفادتها من غطاء دولي تحت ستار محاربتها تنظيم «داعش»، والتطورات العسكرية التي تلامس الساحل السوري، وما تركه خطاب الرئيس بشار الاسد من «تأويلات» وتأكيدات تتعلق بالواقع السوري، والموقف السعودي الممتعض من الاتفاق الايراني.
في الساعات الاخيرة، وخلافاً للتصعيد الكلامي والميداني الذي رافق الوضع الداخلي في الاسابيع الماضية، بدا أن ثمة توجساً لدى القيادات المعنية، فعملت» بوحي خارجي وداخلي» على تهدئة ظرفية، تحاشياً لأي مواجهة غير محسوبة على الارض، قد تؤدي الى انفلات الوضع في شكل لا يقدر أي طرف على تطويقه. فما حصل في ملف النفايات، والتحركات الميدانية الحادة التي عطلت محاولات قوى سياسية أساسية لحل مشكلة النفايات عشوائياً، أثبتت أن الشارع لم يعد محكوماً ومضبوطاً حتى من قياداته المباشرة. وإذا كانت المواجهات الميدانية في هذا الموضوع أدت الى مثل هذه المفاعيل، فكيف يمكن أن تكون عليه الحال إذا ذهبت المواجهات السياسية في ملفات حساسة الى حدها الاقصى فأخذت طابعاً حزبياً أو حتى طائفياً، على غرار ما حصل في الاسابيع الاخيرة؟
وبحسب مصادر سياسية مطلعة، فإن استشعار خطورة ما يجري إقليمياً، لا سيما في سوريا ودخول العنصر التركي على الخط، وحدّة الموقف السعودي المعارض لما تقوم به الولايات المتحدة مع إيران التي باتت في نظرها تتمتع بحرية التصرف في المنطقة، ساهما في تعطيل الانفجار الذي كان وشيكاً، إثر مروحة من الاتصالات الداخلية على مستوى قيادات الصف الاول في لبنان والخارج لتهدئة الوضع الداخلي وعدم الذهاب الى تصعيد لا يخدم آنياً مصلحة أي طرف. وتشير المصادر الى أن التطور الابرز على هذا الصعيد، جاء من جانب الرئيس سعد الحريري، الذي ضغط للملمة الخلاف الحكومي والذهاب الى تهدئة سريعة، خلافاً لما كان عليه جو المستقبل في الايام الاخيرة، لجهة ترك الاوضاع على توترها من دون المشاركة في اتصالات التهدئة، وهذا السعي أثمر على ما يبدو تجاوباً من جميع القوى.

عمل الجميع «بوحي خارجي وداخلي» على التهدئة لتجنب أي مواجهة غير محسوبة


لا يُفهم من ذلك أن المواجهة انتهت الى غير رجعة، لا سيما أن أسباب المشكلة الاساسية التي أدت الى الازمة الحكومية وكادت تصل برئيس الحكومة تمام سلام الى الاستقالة لا تزال معلقة. لكن من دفع في اتجاه عقد مجلس للوزراء بعدما أرجئ الاثنين ليلاً، قبل أن يعلن عنه رسمياً صباح الثلاثاء، كان يدرك أن مجلس الوزراء لن ينفجر، وأن هناك مصلحة آنية لجميع المشاركين في الحكومة في سحب الخلاف من الواجهة، ولو لم تصل بعد الامور الى خواتيمها.
وبحسب معلومات هذه الاوساط، فإن أكثر من طرف له مصلحة في التهدئة «الآنية»، والرئيس سلام أول هؤلاء، لأن رئيس الحكومة بدأ يدفع من رصيده الخاص، في قضية ليس له أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة فيها. فما انفجر على طاولة مجلس الوزراء في البدء، ليس الصلاحيات أو آلية الحكومية، انما استخدمت الآلية على طريق فض النزاعات ومواجهة المشكلة الاساسية، أي التعيينات الامنية، وتطور المأزق ليتحول قضية شراكة وثقة.
وفي نقطة التعيينات تحديداً، لا علاقة لسلام من قريب أو بعيد بها. فما صيغ بين الرابية وبيت الوسط منذ عام وأكثر، لم يكن لرئيس الحكومة يد فيه إلا لناحية أن الحوار بين رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون والرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري، أنتج تركيبة الحكومة الحالية. ما عدا ذلك، لم يتدخل سلام في حوار حزب الله والمستقبل، ولا في اتصالات المستقبل وعون، وتحديداً حول التعيينات الامنية.
من هنا كان امتعاض سلام من تحميله وزر تعهدات لم يقم بها، ما أنتج تبعات عليه وعلى حكومته التي قد يكون مطلوباً اليوم أن تتحول إلى تصريف أعمال في الوقت الاقليمي والمحلي الضائع، لا سيما أنه بات بين حدّين، الاول ضغط تكتل التغيير والاصلاح في ملف التعيينات وصلاحيات رئيس الجمهورية، وضغط القيادات السنية في شأن صلاحيات رئيس الحكومة، وضغط الذين يريدون بأي ثمن بقاء الحكومة. وتمثل التهدئة بذلك مخرجاً فعالاً أكثر في المرحلة التي تسبق الاستقالة، إذا ما كان مطلوباً في لحظة تطور التصعيد الاقليمي القيام بها.
ليس سلام وحده من يرغب في التهدئة. جميع الذي تجاوبوا معها، بناءً على اتصالات إقليمية ودولية، يريدون استعادة الانفاس، لا سيما، وبحسب أحد السياسيين، أن الادارات الدولية كلها تدخل في عطلة صيفية طويلة، لا مكان فيها للأزمات الكبيرة، فكم بالحري بأزمات لبنان التي لا تنتهي. فحركة النائب وليد جنبلاط، سواء بالنسبة الى مشكلة التعيينات أو محاولته إرجاء مجلس الوزراء الاخير كي لا ينفجر، تظهر مدى الرغبة التي يعكسها بوصفه مؤشراً لخطورة الازمات، بتجميد الوضع الداخلي، ريثما تنجلي الاوضاع الاقليمية عن نتائج أكثر وضوحاً بعد الاتفاق النووي. وخشية جنبلاط، وحياد الرئيس نبيه بري في الفترة الاخيرة، عكسا مستلزمات التهدئة التي يتريث عون في قلب الطاولة عليها. فهو لا يزال يصرّ على مطالبه، ويستمع الى كل العروض التي تقدم اليه، لكنه يبقي الباب مغلقاً أمام أي حل لا يقترن بتعيين قائد جديد للجيش. ما عدا ذلك، سيتجاوب مع التهدئة الحكومية الظرفية، من دون أن يتخلى عن مطالبه بالتوافق الحكومي وبالشراكة الكاملة، الى أن يقرر أن الوقت حان مجدداً كي يضع معارضيه أمام مسؤولياتهم، إلا إذا قرر طرف ما مواجهته مجدداً بخطوة تصعيدية.