عند سؤالك أياً من السوريين عن حالته يجيبك: مستورة ـ إذا منبقى هيك منيح ـ أحسن من هيك ما في ـ أحسن من هيك مننتزع/ منخرب. تلك الإجابات لا تحمل أياً من علامات الرضى، لكنَّها تنطوي على كثير من الأسى والسخرية والتسليم بالقدر. فأوضاعهم المعيشية تزداد تأزماً كلما استطال الصراع. أما أسباب صمتهم وتحمُّلهم مآسي الحياة تعود إلى عوامل متعددة منها: مقارنة أوضاعهم بأوضاع أقرانهم في مناطق أخرى.
إدراكهم أن تداعيات الأزمة تنعكس على جميع السوريين. إيمانهم بقدرة الله وعدله. لكنَّ الأهم أنهم يفتقدون إلى الوسائل التي تُمكّنهم من حقوقهم، هذا في لحظة تفتقد القوى السياسية إلى أدنى مقومات ومعايير الفاعلية، والحضور الاجتماعي. لكنهم في اللحظة ذاتها لا يستطيعون تناسي من كانوا قبل الأزمة يقعون تحت خط الفقر الأدنى، والآن أصبحوا يمتلكون ثروات خرافية نتيجة السرقة والنهب والخطف والقتل والتسلّط والابتزاز، وجميعها أسباب تقترن بفوضى السلاح وتكاثر المجموعات المسلحة.
أما أسباب تردّي الأوضاع المعيشية فإنها تتحدد بناءً على: ثبات معدل الأجور مقابل ارتفاع متوسط الأسعار بنسبة تتجاوز في بعض اللحظات الـ 380%، ارتفاع معدل التضخم إلى حدود 375%، انخفاض قيمة الليرة وبالتالي القدرة الشرائية بنسبة تتعدى أحياناً 475%، ارتفاع معدل البطالة إلى 62%، ارتفاع تكاليف الإنتاج بنسبة تقارب معدل التضخم، ويتعلق ذلك بالحصار الاقتصادي وارتفاع أسعار المواد الأولية ذات العلاقة بالإنتاج الزراعي والصناعي، ارتفاع تكاليف النقل بنسبة تتجاوز 850%، ارتفاع السعر الرسمي للمحروقات إلى أكثر من 400% أما في السوق السوداء فإنه يتجاوز الـ 1000%، غياب الرقابة عن الأسواق، سيطرة بعض التجَّار على حركة التبادل التجاري: الاستيراد والتصدير، وعلى الأسواق الداخلية، انخفاض قيمة الليرة أمام الدولار بمعدل يتراوح بين أربعة إلى خمسة أضعاف، تلاعب المضاربين بسعر الصرف، جشع التجّار واحتكارهم للسلع وتحكّمهم بالأسعار، تراجع حجم الإنتاج الإجمالي.

90% من الذين
يتموضعون على عتبة الفقر المطلق، يعانون من انهيار أمنهم الغذائي

ولتحديد متوسط الإنفاق، قمنا على مدار عام 2014 برصد الإنفاق السنوي لبعض الأسر. وكانت النتيجة أن متوسط إنفاق الأسرة المكونة من خمسة أشخاص لتأمين المواد الأساسية والغذائية يتجاوز الـ 119687 ألف ليرة سورية في الشهر الواحد. ونتيجة المقارنة بين متوسط الإنفاق ومعدل الدخل الذي يتراوح بين حده الأدنى الذي يقدَّر بحوالى 15000 ألف ليرة، وسقف الدخل المقدَّر بحوالى 48000 ألف ليرة، فكان العجز الشهري يتراوح بين 35678 و79687 ألف ليرة سورية. أما نسبة العجز بالمقارنة مع متوسط الدخل الذي يقدَّر بحوالى 26250 ألف ليرة، فإنه يقدَّر بـ 61432 ألف ليرة سورية شهرياً. هذا إذا كان كلا الزوجين يتقاضى دخلاً دائماً، ومن الفئة نفسها، ويحصلون على سقف الدخل المخصص لهم. في السياق ذاته تشير بعض التقديرات إلى أن النصف الأول من عام 2015 شهد ارتفاعاً في معدّل العجز الشهري يقدَّر بحوالى 20%. وما توصلنا إليه يتقاطع مع تقارير المنظمات الأممية التي قدَّرت عدد السوريين المحتاجين للمساعدات الغذائية بـ 12 مليون. وذلك يعني أن 90% من السوريين الذين ما زالوا يتموضعون على عتبة الفقر المطلق، وهؤلاء جميعاً يعانون من انهيار أمنهم الغذائي. وهذا يؤكد أن العمال الدائمين والمياومين، إضافة إلى العاطلين من العمل، جميعهم يحتاج إلى مساعدة دائمة لتأمين الحد الأدنى من حاجاتهم المعيشية.
أمّا عن كيفية تدبير السوريين لأحوالهم المعيشة، فإن المساعدات الإنسانية تغطي جانباً مهماً من العجز الذي تعاني منه فئات اجتماعية واسعة. لكنَّ المساعدات لا تصل إلى المحتاجين كافة، وكثير من المحتاجين يرفضون التسجيل في المراكز المخصصة. ذلك نتيجة الفساد والمحسوبيات والبيروقراطية واستغلال المساعدات من قبل بعض المتنفذين وبطانتهم، وتحويلها إلى مصادر للإثراء والمتاجرة. من جانب آخر قلّصت الأسرة السورية معدل إنفاقها على المواد الأساسية والغذائية إلى أشد درجات التقشف، إضافة إلى اعتمادها على السلع الغذائية الأقل جودة والأرخص سعر. ومع ذلك أنفق السوريون مدخراتهم كافة من أموال وذهب وعقارات وغير ذلك. وهذا يعني أنهم سيواجهون معاناتهم المعيشية بجيوب وبطون فارغة، إضافة إلى ذلك فإن استمرار الصراع يساهم في تعميق التصدعات الاجتماعية والإنسانية، وفي تفاقم مظاهر التحلل الأخلاقي والتفكك الأسري، وتجارة الرقيق الأبيض، واستغلال الأطفال على المستويات كافة وبالأشكال كافة.
إلى ذلك، فإن زيادة العرض الذي تشهده الأسواق يقابله ارتفاع في الأسعار يفوق قدرة المواطن الشرائية المتآكلة. وحتى لو انخفضت الأسعار في بعض اللحظات من السنة، فإنها سرعان ما ترتفع إلى مستوى أعلى مما كانت عليه. وفي كل الحالات فإنها لا تتناسب مع القدرة الشرائية للسوريين. أما ارتفاع تكاليف الإنتاج وعدم استقرار الأسعار، فإنه يساهم في عدم استقرار متوسط أرباح المنتجين «المزارعين وأصحاب الحرف الورش الصغيرة والمتوسطة» بالتالي سيكونون عاجزون عن تأمين حاجاتهم الاستهلاكية الأساسية. في السياق ذاته يلجأ عموم السوريين في هذه الأيام إلى شراء ما يحتاجون إليه من المواد الغذائية في فصل الشتاء «مونة». لكنّ ارتفاع الأسعار، وثبات معدل الدخل، وتآكل قيمة الليرة السورية، وانخفاض القدرة الشرائية، وإنفاق كامل المدَّخرات، يمنعهم من ذلك. ويتزامن ذلك مع عجزهم عن تأمين الحدود الدنيا للاستهلاك الغذائي اليومي. وهذا يضع على كاهل الجهات الإنسانية والمجتمع الدولي والحكومة مسؤولية إيقاف ذلك الانهيار. ولن يتحقق ذلك إلا بتوافق دولي على إيقاف الصراع وإطلاق عملية سياسية شاملة وعميقة يشارك فيها جميع السوريين.
* كاتب وباحث سوري