لطالما كرهت تأطير الأسرى في صورة الضحية، ولطالما نقمت على من يعضّ بنواجذه على الشفقة لينثرها على الزنازين. صورة الضحيّة تلك- التي لطالما كانت خبزاً رئيسياً على مائدة الإعلام- لا تعني لي سوى انسحابنا للخلف مقابل انتصار الساديّة الإسرائيلية. كثيرون من حولي يعتنقون "مذهب" التباكي على الأسير، ليجرّدوه بذلك من القوّة الخفيّة التي دفعت به إلى السجن، وكأنّهم يتمادون في تهشيم المرآة التي لا تعكس أصلاً سوى احتمالات السقوط الإسرائيلي ومآلاته.
لستُ هنا بمعرِض "تحنيط" الأسرى في قالب لا يحتملهم ولا يحتملونه، كما أنّني أربأ بنفسي عن تأويل جميع مصائرهم أو ليّ عنق حاضرهم وماضيهم، لكنّني أقترب مثلاً من معنى أن تكون "التغذية القسرية" امتداداً لمعادلة المواجهة. ثمّة مفارقات جمّة تحملها تجربة الأسر بحدّ ذاتها، وكأنّها "أمّ المفارقات" فعلاً؛ أهمّها أنّ الأسرى يرهنون حريتنا بأسرهم. هم يحرقون فردانيتهم في الحريّة لقاءَ قيمتها الجمعية، وكأنّهم أكثر الناس التصاقاً بها. هم يجدفون بمجداف الحياة ولا يتّخذون موقفاً عدميّا منها، بل يشتبكون مع المنيّة دون أيّ ساتر.
وبرغم كلّ ذلك، صار زمننا مأسوفاً عليه. ربما اعتدنا حمّامات الدم التي تحقننا بمورفين البلادة، فلا نحتكّ بمن "يهزمون الأمعاء وحدهم" إلّا حالما نشعر بأنّ علينا أن نبرّئ ذواتنا من أيّ موت محتمل لهم. على هذا النسق، مرّ أخيراً خبر موافقة الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي على إجراءات تسريع قانون "التغذية القسرية" للأسرى المضربين عن الطعام. ماتت الخضّة العنيفة التي من المفترض أن يحدثها خبر كهذا في زحمة سعار الحروب، وكأنّ الأسير صار عند بعضهم مجرّد كائن روتيني يكرّر يومياته ولا يصنع مشاهد هوليوودية على غرار "داعش" لنتوقّف عنده.
نحن في عالم صار التكيّف فيه مع البشاعة والارتهان لها من مؤهّلات الحياة. لا يعني هذا تجاوزاً للمحن، بقدر ما يعني أننا افتقدنا دهشة الصدمة. صرنا مسلّمين تماماً بعبارة "رعبٌ أكبر سوف يجيء"، حيث أفواهنا مفتوحة دوماً على استقبال المزيد. عادي أصلاً يمكننا في القريب العاجل أن نتناول طعامنا بشراهة أمام شريطٍ لأسير يتعرّض للتغذية القسرية، كما لو أنّنا نشاهد عملاً تراجيدياً لم تفصّل فيه نهايته على مقاسنا، فإذا بنا نقول "يا حرام" ثمّ نعود إلى ما كنّا عليه.
منذ سنوات، تحوّل كثيرٌ منا إلى مجرّد متضامِنين مع أنفسهم. تحت عنوان التضامن ليس إلّا، نخرج لغزّة. نهتف للشيخ القائد خضر عدنان. نجرّب حبالنا الصوتيّة قليلاً كرمى لعيون معتقل سياسي هنا أو هناك. نقلّب دفاترنا العتيقة والجديدة لتحيلنا بدورها على "خطيئة" التضامن الكبرى التي نمارسها، إذ صرنا من أكثر الشعوب التي تتضامن مع ذاتها، وفي الوقت ذاته تنسحب بخفّة من صناعة الحدث. تلك "الخطيئة" أقصى ما يمكن أن نفعله إزاء أسير مربوط في كرسي التعذيب، ويحيط به قتلة يضعون أنبوب الموت بطول نحو 61 سنتيمتراً في أنفه موصولاً بمعدته الخاوية لدفق السائل المغذّي قسراً، كما يثبّتون رأسه ويقيّدون قدميه ويديه بأغلال جلدية، وقد يعيدون كلّ ذلك أكثر من مرة في اليوم!
مقابل ذلك، لم ولن ينتظر الأسير أحداً منّا ليعلن انقلابه بقوّة على كلّ ذلك، وكأنه يعيش حالة نكران للأنبوب الذي يدخل جسمه رغماً عنه، لكنّه بالنهاية يبصقه بوجه السجّان ويعيد تدوير مصيره كيفما شاء. لا يهمّ إن ذاب الأنبوب في معدته أو وصل إلى الرئتين، فاختنق وأسلم الروح بفضل المجابهة تلك. المهم أنّ يظلّ هو الغالب، ولا يتحوّل إلى مفعول به تختار له "إسرائيل" الميتة المناسبة أو تنوب عنه بقراره في كسر الإضراب عن الطعام.
راسم حلاوة وعلي الجعفري وعبد القادر أبو الفحم ثلاثة شهداء من الحركة الأسيرة لم تتمكّن "إسرائيل" (بجلالة قدرها) من إسدال الستار على حياتهم بمزاجها. ثلاثتهم عبروا سكّة الشهادة عامي 1970 و1980 رغمّاً عنها، بعدما حاولت فرض خواتيم معركتهم عليهم بتغذيتهم قسراً عبر ذاك الأنبوب. صحيح أنّ ميزان تكافؤ القوّة الماديّة غائب هنا، وصحيح أيضاً أنّ العدوّ عدّ أولئك "فئران تجارب" يُجرَّب عليهم كلّ شيء، غير أنّ قوّتهم المعنوية وصلابتهم طرحتا كلّ ما في جعبة العدو من أنابيب وكراسي تعذيب وأصفاد أرضاً، بل وألقتهم في مهاوي الردى. انتفضوا على طريقة تشكيل المصير تلك، فإذا بـ"الزوندا" تدخل رئاتهم بدلاً من مِعَدهم، ويغمضون أعينهم ويمضون نحو السحاب.
تعيش "إسرائيل" رُهاب الأسر على نحو هستيريّ، وتنكمش في حضرة من لا يستنفدون أدوات المواجهة من خلف القضبان، إذ تبدو مجاراتها لتلك الأدوات أشبه بضربة في الهواء. الأسير أصلاً بطبعه كائن متجدّد لا يفقد خياراته، مهما كان المقابل ومفاعليه، بيد أن هذا المقابل يرفع الشارة البيضاء على عجل ليدخل "ماراثونات" التعذيب التي لا تنذر سوى بأنّ ما سيفعله الأسير سيكون فوق طاقة تحمّل المُفلِس.
هكذا، تبدو التغذية القسرية أسلوباً غبياً في مناورة الجسد ومداورة صاحبه. صحيحٌ أنّ الجسد قد يخذل صاحبه، لكن الروح تظلّ آخر القلاع التي لا تسقط مهما تخدّر الجسد. يدرك العدوّ جيداً أنّ قوّة مناورته هنا تكمن في ضعفه أمام جسد هزيل صائم عن الطعام. ليس ثمّة وقت أفضل عنده من اللحظة التي يخرّ فيها الجسد لإيهام نفسه بأنه ألقى هدف النصر في مهداف صاحب الجسد. أهناك خواء وفشل وضعف وانتحار أكثر من هذا؟
مهما تعدّدت هوياتها، تظلّ فكرة الاستعمار واحدة، وتظلّ جميع الأنظمة الكولونيالية على الكرة الأرضيّة على قلب استبداد واحد. هكذا، تظلّ تنفخ في قِرَب مثقوبة وتستهلك "سيناريوهات" بعضها بعضا، على أمل أنْ تتهاوى فكرة المستعمَر ويتلاشى صاحبها، لكن يبدو ذلك كحلم إبليس في الجنة أو كفراشة تقترب من الضوء برغم علمها المسبق بأنّها ستحترق به. وهكذا تماما هي "إسرائيل" التي هي بصدد إسقاط تجربة "غوانتانامو" في التغذية القسرية على أسرانا الذين لا يهادنون أجسادهم. هي فرصة، إذاً، لنرى صفعات الأسرى تنهال على وجهها. هكذا لا يسعنا إلا أن نقول لها شامتين "حظّاً أوفر يا إسرائيل".