على عكس أغلب «المدنيين» من أمثالنا، فإن الكثير من خبراء الكمبيوتر، والنشطاء التكنولوجيين، والمجرمين، يعرفون جيّداً ما يسمّى الـ «ديب ويب»، وهو الجزء «المظلم» من الانترنت: لا يصنّف على محركات البحث، ولا يمكنك أن تجد مواقعه بلا معرفة مسبقة، والكثير منها يتمّ الدخول اليه ببروتوكولات خاصة عبر متصفّح «تور»، بحيث يكون المستخدمون مخفيين عن ملّاك الموقع، وعن بعضهم، وعن السلطات الرقابية.
في هذه المساحة التي لا ينظّمها قانون، والتي يسميها بعض روّادها «داركنت»، وجد روس اولبريخت ضالّته. اولبريخت شابٌّ اميركي، يحمل شهادات عالية في الكمبيوتر وهندسة النظم؛ وهو مؤسس موقع «طريق الحرير»، الذي صار أشهر مواقع الـ «ديب ويب». تخيّل «سوقاً» تشبه «ايباي» أو «أمازون»، تصل آلاف التجار والبائعين بملايين الزبائن حول العالم، ولكنّها تختصّ ببيع المخدّرات والممنوعات. اعتمد الموقع عملة «بيتكوين» (عملة الانترنت) لاجراء تعاملاته، وكان يحوي دليلاً يشرح للتجّار كيفية شحن الممنوعات الى الزبائن من دون أن تكتشفها شركات البريد. للتدليل على الحجم الذي بلغه الموقع، تكفي الاشارة الى أنّ «تاجراً» واحداً ــــ تم القبض عليه مؤخراً ــــ قد باع، من منزله في هولندا، ما قيمته 160 مليون دولار من المخدرات عبر «طريق الحرير».
الغريب في الأمر هو أن الدافع الأساسي الذي جعل أولبريخت يبني امبراطوريته كان ايديولوجياً، وليس مالياً. أولبريخت يعتنق بقوّة العقيدة «الليبرتانية»، وهي مذهب سياسي أميركي يستعير عناصر من أقصى اليسار وأقصى اليمين، ويعتبر أنّ الدولة لا يحقّ لها أن تتحكّم بسلوك الأفراد في حياتهم الخاصة، ولا بالمواد التي يختارون أن يضعوها في أجسادهم، وأنّ احترام هذه المساحة من الحرية، التي تسمح للفرد بتحقيق ذاته خارج سلطة الدولة، هي الوعد الأساسي للثورة الأميركية وروح دستورها.
كانت هذه النزعة واضحة من خلال النقاشات الطويلة التي كان أولبريخت يعقدها على موقعه، وسط آلاف المؤيدين والمريدين (لم يعرف أحد اسمه الحقيقي حتى يوم اعتقاله، وهو اعتمد ــــ على الموقع ــــ اسماً مستعاراً من شخصية قرصانٍ في قصّة خيالية شعبية؛ فيحوّل تجارة المخدرات الى تعبير سياسي عن الحرية الفردية، وبداية لاستخدام التكنولوجيا لخلق مساحاتٍ حرّة بين بشرٍ أحرار، لا تطالها القوانين والتنظيمات. بالمقابل، لا تُظهر سيرة أولبريخت أنّ المال كان مهماً لديه؛ فبرغم حصوله على ما يقارب المئتي مليون دولار من أرباح الموقع، كان يعيش حياةً متواضعة، متنقلاً بين استراليا واميركا، لا يملك الا حاسوبه المحمول الذي كان يدير من خلاله «طريق الحرير». وحين تمّ القبض عليه، أخيراً، في سان فرانسيسكو عام 2013، كان يستأجر غرفةً بسيطة في منزلٍ مشترك.
في قصةٍ طويلة عن أولبريخت و»طريق الحرير»، نشرها موقع «وايرد»، يقارن الكاتب مسيرة روس اولبريخت ببطل مسلسل «بريكينغ باد» الشهير: ابتدأ أولبريخت، الذي لم يعرف الجريمة ولم يخرق القانون في حياته، مشروعه بأفكارٍ «مثالية»، ثم وجد نفسه في دوامةٍ من المشاكل وجنون السلطة والنفوذ، حتى صار شخصية «مخيفة»، تهدد شركاءها وتطلب ــــ من قتلة محترفين ــــ «التخلّص» من أعدائها (الا أن أولبريخت لم يتسبب بمقتل أحد، فـ «القتلة» الذين استخدمهم كانوا، في احدى الحالات، ضباط «اف بي اي» يحاولون الوصول اليه، وفي حالة ثانية، قبضت العصابة التي استخدمها اولبريخت المال ولكنها لم تنفّذ ما طلبه).
غير أنّ أكثر العناصر دلالة في قصة اولبريخت تتعلّق بالحكم الذي ناله، منذ أشهر، والتعليل «السياسي» الذي قدمته القاضية لوضعه في السجن لما تبقى من حياته. يقول ميشال فوكو إنّ السلطة «الحديثة» لا ترمي الى السيطرة على أجساد الناس عبر تحديد سلوكهم الظاهري فقط، ومعاقبتهم حين يتمرّدون (على القانون أو السلطة أو القواعد الاجتماعية)، بل الى تحويل هذه القوانين الى مفاهيم ثقافية ــــ عن الصح والخطأ، والعقلانية والجنون، والحياة المحترمة وتلك الوضيعة ــــ تستبطنها عقول المواطنين وتحرّكهم من الداخل. بهذا المعنى، أكثر ما يستشرس النظام ضدّك حين يعتبر أنّك لست «منتجاً» صالحاً له، ولم تتمّ «تربيتك» كما يجب، ولا يرى الخطر فيك بسبب أفعالك، بل لأنك لا تشاطره ايديولوجيته.
أعطت القاضية الأميركية اولبريخت حكماً يفوق في قسوته ما طلبه فريق الادعاء؛ ويمثّل تعليلها للحكم شاهداً ممتازاً على ما يقوله ميشال فوكو. لم تركّز القاضية على الأضرار التي تسبب بها أولبريخت، والتي يُفترض أن تكون أساس العقوبة، أو على ضعف الدفاع الذي قدّمه (ادّعى، مثلاً، أن «طريق الحرير» قد جعل تجارة المخدرات «آمنة» وخالية من العنف)، بل على نقطة «ايديولوجية» مثيرة للتأمل: «الهدف المعلن (من انشاء «طريق الحرير») كان ايجاد مساحة خارج القانون»، قالت القاضية لأولبريخت أثناء اعلان الحكم، «في العالم الذي خلقته… الديمقراطية لم تكن موجودة… انت كنت قبطان السفينة»؛ ثم أوضحت: «ولادة وعمل طريق الحرير يؤكدان أن صانعه (اعتقد) أنّه أفضل من قوانين هذا البلد. هذا العامل يثير القلق بشدة، وهو مضلّلٌ بشدة، وخطير جداً»، ثمّ أعلنت حكماً بسجنه مدى الحياة بلا امكانية لإطلاق سراحه.
(ملاحظة على الهامش: يوجد على الأقل ثلاثة أفراد من الفريق الأمني الذي لاحق أولبريخت، واعتقله، تتمّ محاكمتهم حالياً لأنهم ــــ خلال عملهم المتخفّي ــــ سرقوا ملايين الدولارات، وتحولوا الى الجريمة، ومارسوا الابتزاز والتهديد).