لا يفوتنا أن القراءة العلمية تقتضي تحديد بعض المصطلحات والمفاهيم، أولها أن الصراع يدور اليوم بين محور المقاومة والممانعة بمنظومته المشخصة والمحدّدة وداعميه، ومحاور أخرى تتلاقى موضوعياً، وتتباين أجنداتها ومصالحها إلى حد التناقض أحياناً كثيرة. فالأول له هوية واضحة بينما يفتقر الثاني لذلك، إنه أشبه بمجموعة تقاطعات وتفاهمات أقصى ما يقال فيها إنها تكتية وموضعية. ولعل هذه النقطة المنهجية تعتبر أبرز عوامل وضوح الرؤية عند الأول وافتقادها عند الثاني، وما استتبعه ويستتبعه ذلك على مستقبل الصراع.
ثانياً، إن حساب الربح والخسارة يتطلب تجاوز ظاهر الآثار لما هو أعمق وأبعد، أولاً لاختلاف زاوية نظر أو تصور كل طرف وتفسيره ووعيه لنقاط القوة والضعف من جهة، كما لأن نقاط القوة والضعف منها ما هو سالب (يمنع الآخر) ومنها ما هو موجب (يُغير بالآخر) وبينهما جدلية معقدة جداً، كما أنه يعتمد على المعرفة الحقيقية بأوراق القوة المستخدمة على طول خط المواجهة المفتوحة، وتلك الكامنة أو غير المفعّلة حتى اللحظة.
البداية اخترناها مع المملكة السعودية كواحدة من أبرز الأطراف في صراع المنطقة... ماذا حصدت حتى اللحظة ؟ ارتكزت قوة المملكة إلى دعامتين شكّلتا أسْ أمنها الاستراتيجي:

الأولى: نظرة «الآخر» لها... فهل تغيّرت؟

يقول أحد المفكّرين، لتحدِّد موقعك لا تنظر فقط في نفسك، بل أيضاً اعرف كيف ينظر الآخر إليك. شكلّت «النظرة» للمملكة ولأسباب عديدة ومتداخلة طوق الحماية وخط الدفاع الأبرز لها على امتداد مسارها السياسي، كأنّ الجميع وكلُّ من زاويته ينظر للملكة بهذا الاعتبار. فالمملكة تحوز على البعد الديني (البيت الحرام) من جهة والبعد المالي (تقديم المعونات) من جهة ثانية، وثالثاً وهو الأهّم «الدور» الذي اتسمَت به بشكل عام كضامنٍ لوحدة الصف العربي وساعٍ إلى الحّد من أزماته وحلّها - ولو بالظاهر - وخيمة حّل خلافاته وانتاج مصالحاته... إلخ.
«الهالة» أو حضورها المعنوي المتمثِّّل بالرداء الديني و«النظرة» لها وقوتها «النصف صلبة» - المال - هي المرتكزات التي أُصيبت في الصميم. المال بوصفه «أحد مرتكزات القوة السعودية» ربما نجح في بعض التكتيكات، لكنه لم يغيّر شيئاً بالميزان الاستراتيجي.
ظهر أنه يستطيع أن يهدّم، لكنه أعجز بمفرده أن يُعمّر! فللإعمار شرائط ووسائل وأدوات أخرى، لا تمتلكها المملكة. الإعمار يحتاج إلى علم ينتج، ومجتمع قائم (ناهض) ورسالة... يحتاج إلى منظومة قيم يمكن تقديمها كنموذج يحتذى به فتكون قابلة للتصدير. يحتاج إلى تجربة سياسية وأمثولة مُحفّزة يتطلع الآخر ويطمح إليها. يحتاج إلى تمايز وإبداع... بكلمة أبلغ يحتاج إلى عقول مخصّبة وفائض حكمة ورؤية. المنتج الثقافي السعودي أصبح محلّ لوم وانتقاد بل وإدانة العالم بأسره، فالجميع اليوم حتى حلفاء المملكة تجاوزوا الرسائل المبطّنة (كما فعلت أميركا على إثر أحداث 11 أيلول) ليوافقوا محور المقاومة في رؤيته لخطاب المملكة الديني (الوهابية).

أخفقت السعودية في تصوّرها أو استسهالها لقيادة القاطرة أو الحلف المبتغى لمواجهة إيران


تبدو السعودية اليوم كسواها من الدول – بلا هالة - لا تتمايز بشيء عنهم، ما يستتبع التعاطي المقبل معها برؤية جديدة تشبه هيئتها الجديدة. أصبحت تحت الضوء والنقد والإدانة... دخلت ساحة الصراع السياسي والإعلامي كأي دولة لها ما لها وعليها ما عليها، فلا خصوصية من اليوم فصاعداً ولا مهادنة، فرداء المملكة القديم (رداء جمع خلافات القوى العربية وتطويقها وعباءة طباعة المصاحف وتوزيعها وخدمة الحرمين الشريفين) تمزّق إلى غير رجعة. إنها ببساطة شديدة نظام يقتل الأبرياء والأطفال أمام أعين الأمم وبالطائرات الأميركية، تشتري الضمائر والذمم بالمال (ويكيليكس)، تُجالس الإسرائيلي علناً – دونما تستُّر -، تقمع ثورة شعب البحرين الراشد، وتصدّر مئات الانتحاريين والإرهابيين بل الآلاف، وتلتّف على الثورة المصرية لتطيح بـ«الإخوان» بما يشبه الثورات البيضاء التي رعتها أميركا في العالم. أعداؤها اليوم – بالصدفة - أعداء إسرائيل في المنطقة. وهي الدولة الوحيدة (للاعتبار إسرائيل ليست دولة بفهومنا) لا يوجد فيها دستور ولا فقه دستوري ولا حريات ولا أحزاب ولا حتى أدنى حقوق المرأة ولا... ولا. تستأجر «إنسان» بعض الدول الإسلامية الفقيرة ليخوض معركتها في اليمن، وجنودها وضبّاطها يفّرون في أصغر المواجهات مع جيش يمني وجماعات متواضعة الإمكانات والقدرات... أليست هذه الوقائع والحقائق التي كُنّا لا نحّب أو نتحفظ عن مُجاهرة المملكة بها. إنّ بعض ما تغيّر، أنّ المملكة خسرت طوق حماية «الهالة» ونظرة «الآخر» لها.

ثانياً: الحماية والدعم الغربي ــ الأميركي

استظلّت منذ نشأتها بحماية أميركية خارجية وعلاقات مميّزة في مقابل تأمين تدفّق أموال العرب وثرواتهم وذهبهم الأسود إلى الغرب. ورغم أنّ هذه الحماية لا تزال قائمة وستظّل لمصلحة أميركية مشخّصة، إلا أنّها تأثّرت ولو بعض الشيء، فلا أحد يستطيع أن يتحدث عن علاقة ممتازة اليوم بين المملكة وأميركا، «إنها سنة بداية التباين ولو الجزئي بينهما». كما أنّ هذه الحماية مقرّة تجاه الخارج، وتهديد المملكة اليوم أصبح على الأقوى ذا طبيعة داخلية.
إزاء هذه المستجدات والتغّيرات، إن في نظرة المجتمعات والأنظمة وحتى الأفراد للملكة وموقعها، وانخرام إن لم نقل بداية تصدّع علاقتها بأميركا، وإزاء التراجع غير المتوقع لدور أميركا في المنطقة والعالم (كما يُجمع مختلف الآراء ليس آخرها ريتشارد هاس والجنرال الخبير السياسي المخضرم رئيس وزراء إسرائيل السابق يهود باراك)، وبعد اقتحام المملكة المسرح السياسي بتوقيت خطير وبدفع عربات القتال والطائرات الأميركية مباشرة، يثور السؤال الأكبر: هل المملكة امتلكت أو تمتلك أوراق وأنساق اللعبة السياسية لعالم اليوم وعدّتها بالأبعاد المختلفة؟ ماذا عن خبراتها التاريخية السياسية في بيئة إقليمية ودولية استثنائية التعثُّر فيها ممنوع؟
حتى الساعة: دفعت المملكة بكل أوراقها، وكان آخرها المباشرة العسكرية في اليمن. وتقف اليوم بلا رؤية أو استراتيجية للخروج «منتصرة» كما سعت، - خطوتها هذه إذا لم تتداركها - أشبه بأخطاء التاريخ الكبرى التي يرتكبها بعض الساسة لحسابات خاطئة، فكشفت عن هشاشة قدراتها (العسكرية كما السياسية والاستراتيجية). إذاً كيف السبيل لحماية ساحة شبه الجزيرة العربية بكلّها وتطمين حلفائها؟
تقف اليوم في مواجهة حادّة مع شعبين صارا يكّنان لها الكراهية، حتى الآن، في شبه الجزيرة العربية البحرين واليمن، واختلاف عميق مع سلطنة عمان، وبوادر تمايز ستظهر عمّا قريب مع الكويت بعد أن بلغها الإرهاب السعودي، والمعطيات ستكشف عن تباين يتسّع مع الإمارات التي ظهر أنها تشارك السعودية في حرب اليمن، لكنها تحسب لخطّ الرجعة من خلال أولاد صالح على أراضيها، وتناقض التحالف الطارئ بين الملك سلمان والإخوان المسلمين. وسنشهد مزيداً من التباينات والاختلاف مع مصر السيسي عمّا قريب بدءاً من الملف السوري. إنّ عدم تسترها عن اتصالاتها السياسية وحتى الأمنية بإسرائيل يترك المجال للتفسير، لماذا الآن؟ هل في ذلك حاجة ورسالة؟ وهل هي غير رسالة ضعف وهستيريا بعد بلوغ آفاق مسدودة؟
أخفقت السعودية في تصورّها أو استسهالها لقيادة القاطرة أو الحلف المبتغى لمواجهة إيران، فحلفاؤها المفترضون كلُّ في مشكلاته وأزماته - التي لم تكن منابرها بريئة ممّا وصلوا إليه. باكستان في أزمتها وتوازناتها الداخلية الهشّة والمعقّّدة. مصر هي الأخرى تغرق في دمها والإرهاب التكفيري يهدد أمنها وبنية مجتمعها وتعيش على نار الصفيح الساخن ونذرها. تركيا دخلت الأزمة بما لم يكن متوقعاً. أكثر ما يستطيعه أردوغان اليوم بعيداً عن الصخب والضجيج هو كيف يعيد تثبيت زعامته المهددّة ولو على حساب تحوير سياسته الخارجية. ما سيعمّق الاختلاف وأجندات الحّل حول مقاربة المسألة السورية تباعاً بين «الحلفاء»! فمستقبل كل منهم يتوقف على مستقبل سوريا والهيئة التي ستكون عليها. ولن يتجاوزوا الكارثة والتناقض الذي سيتفاقم بينهم إلا إذا نجحوا بالتقاط إشارات الرئيس الروسي التي فيها من الإبداع ما يُشّكل مخرجاً لائقاً للجميع، إن أرادوا!
ــ خسرت المحايدين والأقليات الدينية وكثير من القوى التي كان ممكناً استيعابها أو احتواؤها. فاستُثيرت الأقليات الشيعية على وقع أحداث اليمن والبحرين، باتت ترى نفسها مهددّة بالاستئصال إذا هُزم الحوثيون! أو أمام التجنيس المبرمج لتغيير هوية البلاد الديموغرافية كما هو جارٍ في البحرين. أمّا الدماء المراقة في تونس والكويت والصومال ومصر فلأهلها أن يسألوا، ما قسط السعودية في الدم البريء؟
نقلت بسوء تقدير خطر الإرهاب (داعش والنصرة وأمثالهما) من الدائرة السورية البعيدة «بقراءتها» الى العراقية وأخيراً وليس آخراً إلى الداخل السعودي المهيّأ أصلاً لكل أشكال المفاجآت.
ــ جرّت الأزمة إلى حلفائها حينما أرغمتهم على السير بمعركتها إلى حيث تريد، فهدّدت أمنهم واستقرارهم السياسي والاجتماعي، واستجلبت لهم لعنة الإرهاب، ما يهدّد بتنامي حالة ومطلب الحماية الذاتية «ولو أنّه غير معلن حتى الآن» توجسّاً على الهوية وضماناً للوجود المهدّد، هذا الكلام يسري على كل دول الخليج.
أما سورياً، فحتى اللحظة لا يمكن التحدث عن تقدّم قابل للصرف السياسي لصالح السعودية في مقابل الحكم في سوريا، ونذر الفشل الأخيرة كانت لـ«عاصفة الجنوب»، فمحور المقاومة ثبّت مواقعه مؤكداً خطوطه الحمراء. يبقى أنّ السعودية تسعى ربما لتقسيم سوريا علّها تروّجه كربح! ولا ندري أين مصلحتها، بل مصلحة مَن مِن أقطارنا في ذلك؟ ربما ينظِّر لذلك بعض صبيانها.
عراقياً، ليس لها أي دور فعلي أو مساهمة جدّية في مساعدة العراق للتصدي لأزمته، وفي حال نجاحه ولو التدريجي بالتصدي للإرهاب ولملمة جراحه لن يكون لها أي دور في مستقبله السياسي، وتقسيم العراق ليس لمصلحتها.
لبنانياً، يتراجع حضور المملكة ويتجّه نفوذها للانحسار. يتزايد الحديث في لبنان والقناعة بضرورة البحث عن صيغة سياسية جديدة. فسوريا كما السعودية يفترض إخراجهما من المعادلة اللبنانية. يعزّز ذلك ما تسوقه تطورات المنطقة، فالشارع المسيحي يعيش لحظة تغيّر المزاج العام بنظرته للمملكة وبدأ يتلمّس ضعفها وفشلها والأخطار تُحدق به، أضف أن أغلب المسلمين بل حتى أقرب حلفائها، بدأ التململ يشّق طريقه إليهم من أدائها المتعثّر في المنطقة ولبنان، الكُّل يقترب تباعاً من منطق فريق المقاومة ورؤيته ويبعث الرسائل ولو من وراء الستار.
ويترقّب النظام السعودي توقيع الاتفاق النووي مع ايران الذي سيرخي بظلاله الاستراتيجية على كامل المشهد في المنطقة وعلى الصعد كافة حتى الاقتصادية منها والنفطية وغيرها كأكبر حدث لهذا القرن بعد مؤتمر يالطا وانهيار الاتحاد السوفياتي.
الأزمة المالية والاقتصاد المتراجع، وإن كان ممكناً تداركهما اليوم، لكن الوقت ليس لصالحها إذ ليس بعيداً يعلو الصوت، فالمجتمع السعودي يتم تخدير قسم منه بالفتوى والمال، والناشطون فيه وأصحاب الرأي الحر بالقمع والسجن. بوادر الأزمة المالية ستظهر عند استحقاقات المملكة ودفوعاتها لمجلس التعاون الاسلامي وللحكم في مصر (السيسي) ولكل المستفيدين الذين يعجزون عن القيام بالمطلوب. بسبب تكاليف العدوان على اليمن، بدأت السعودية باستخدام احتياط الخزينة لديها. واليوم لم يعد لأحد في هذا العالم، دولاً كانت بدءاً من أميركا والدول الاسكندنافية - عدا بلد الثورة الفرنسية، فرنسا - أم مؤسسات (أممية ومجتمعاً مدنياً وحقوق إنسان) أو جهات أو أفراداً، إلا توجيه اصبع الاتهام الى المملكة السعودية بتحميلها الكفل الأكبر لما أصاب أمتنا وحتى العالم، إن بنظامها الذي تتساوى فيه مع أسوأ النماذج في العالم العربي والثالث، أو بتميزها عنه بالخطاب الديني الذي تكوى به جباه الناس وجلودهم، بل تداس به كراماتهم وحقوقهم الطبيعية.
واليوم تخطى المواطن العربي سؤال العيش الهانئ وحتى سؤال البقاء، ويقترب أن يسأل ماذا تعني «العروبة»؟ تراه اليوم يسأل سؤال الهوية، السؤال الأخطر الذي يتيه أجيال اليوم وشبابه بالبحث عنه، وهو ما يحتاج لكتابات ومقالات مستقاة، ولا مناص أنه يدرك أن للمملكة القسط الأوفر من بين أنظمتنا العربية المهترئة في تمييع هويته وتشويه حقيقة عروبته.
أزمة السعودية الكبرى، أنّها بدأت تلامس أو لامست سؤال «الشرعية والمشروعية» التي ما انفكت التجارب والأمم تُفتش عنه لتتقوى به وتتقدّم حتى ما يسمى دولة إسرائيل، بعد أن أزيح عنها أو انفتق رداء الهيبة والجانب الناعم من القوة، تراها خسرت في القوة الناعمة كمرتكز للشرعية ولم تكسب في القوة الصلبة! لا شيء في زمننا وألفيتِّنا هذه أهّم لأي دولة أو حركة أو فرد من قوة المشروعية والنموذج. عالم اليوم لم يعد يحتمل بؤس وظلامية هذه الدولة مهما مالق فرنسوا هولاند وأمثاله... أما أموالها فلن تكون قادرة على تغطية حجم اعتواراتها وخطرها ولا ديّة الدماء المهرقة بكتبها ومنابرها. اقترب الشارع العربي اليوم من قول: «إنّ مشكلة المنطقة لا تقتصر على إسرائيل فحسب، فنحن العرب أيضاً عندنا مملكة المال والتكفير». حتى اللحظة، هل أمكن الحديث أن المملكة السعودية حققّت أي تقّدم نوعي يُذكر، أم أنّ المعطيات تؤشر كلّها لنتائج أخرى ليس فيها إلا التراجع وانحسار الدور؟
* باحث لبناني