في الخفاء وتحت عنوان الاهتمام بالتطوير والتوسعة والسهر على راحة الحجيج والزوار، يرتكب النظام السعودي أكبر جريمة بحق التراث الإسلامي والآثار الدينية لرسالة النبي محمد في العصر الحديث. وتحت شعار توسعة الحرم النبوي يتم تحقيق أهداف وضعت قبل عشرات السنين تتمثل في إزالة المعالم الإسلامية من الحجاز بشكل ممنهج.
وكشفت مصادر في المدينة المنورة لـ«الأخبار» أن مشروع التوسعة الأضخم على الإطلاق الذي يطال المدينة، سيجرف مساجد وآبار ومواقع تاريخية تعود إلى عهد النبي محمد في المدينة، تحمل قيمة عظيمة تجعل كل مسلمي العالم دون استثناء يرفضون المس بها، خاصة أن بعض الخبراء يشيرون إلى أن المسجد النبوي ليس بحاجة إلى مشروع توسعة ضخم كهذا، بعد توسعة عام 1995، لعدة أسباب، أهمها عدم وجود الزوار في وقت واحد في الحرم كما في موسم الحج، وعدم وقوع أي حادث له علاقة بالازدحام، وحتى في موسم الحج نفسه يزور ملايين الحجاج الحرم النبوي قبل أدائهم مناسكهم وبعده بطريقة سلسة جداً.

المسجد النبوي ليس
بحاجة إلى مشروع ضخم كهذا بعد توسعة عام 1995


شُغلت وسائل إعلام نظام آل سعود قبل بضعة أسابيع بزيارة الملك سلمان للمدينة المنورة وتدشينه مشاريع تنموية كان أبرزها افتتاح مطار الأمير محمد بن عبد العزيز. وخلال زيارته اطّلع سلمان على مجسم لخريطة المشاريع التنموية في منطقة المدينة المنورة، كذلك قام بزيارة مسجد قباء (أول مسجد بُني في الاسلام) الذي ستشمله أكبر توسعة للحرم النبوي في تاريخ حكم آل سعود للحجاز. التوسعة أعلنها الملك السابق عبدالله عام 2013 وبدأ العمل الفعلي بها أواخر عام 2014 بإزالة 14300 عقار في الجهات الشرقية والغربية والجنوبية من المسجد النبوي، ونزع الملكيات الواقعة ضمن منطقة التطوير تدريجياً، البالغة مساحتها نحو 1،4 مليون متر مربع. وتقع هذه المواقع على طريق السلام، طريق الملك عبدالعزيز، ميدان سيد الشهداء (طريق الملك فهد بن عبدالعزيز)، ومسجد قباء جنوباً والمناطق المحيطة به. وتفيد معلومات «الأخبار»، نقلاً عن مصادر متابعة لمشروع التوسعة، بأن أعمال الهدم والتجريف دخلت مرحلتها الأولى بهدم كل ما يقع بمحيط 2 كيلومتر من الحرم بحجمه الحالي التي استقر عليه بعد توسعة عام 1995، والإعداد جار على قدم وساق بالتمهيد للمرحلتين الثانية والثالثة من التوسعة في المستقبل المنظور.
وتشير المعلومات إلى أن مشروع التوسعة سوف يستهدف هدم المساجد السبعة الشهيرة في محيط المسجد النبوي، منذ ما يزيد على 14 قرناً. فمسجد السجدة (مسجد أبا ذر) الذي سُمّي بهذا الاسم نسبة إلى سجود النبي سجدة شكر في موضعه كما يروي المسلمون سوف يُمسح عن الخارطة، أما باقي المساجد القديمة المستهدفة بالهدم فهي الواقعة جنوب غرب الحرم، وتضم كلاً من مسجد علي بن أبي طالب ومسجد أبي بكر الصديق ومسجد عمر بن الخطاب حيث يروي المسلمون أن المسجدين بنيا في أماكن تمترس الخليفتين في معركة الأحزاب، ويضاف إليها مسجد الغمامة الذي يُروى أن النبي صلّى في موضعه صلاة العيد الأخيرة عام 631 ميلادي. أما في الجهة الشمالية الشرقية فيطال الهدم مسجد الإجابة الذي تم بناؤه في حياة النبي على يد قبيلة بني معاوية الأوسية، وقد صلى فيه الرسول، كما سيطال التجريف مسجد السبق الواقع شمال غرب الحرم النبوي وفي موضعه كان يُضمر لسباق الخيل في عهد النبي.
وتتابع المصادر أن من بين المعالم التاريخية الإسلامية التي سيطالها الهدم «سقيفة بني ساعدة» التي شهدت بيعة أبي بكر الصديق كأول خليفة للمسلمين، ومن المواقع المنوي هدمها «بئر بضاعة» الواقع إلى شمال غرب المسجد النبوي، الذي يرد ذكره في كتب الحديث والسيرة، إضافة إلى موقع «مبرك ناقة النبي» الواقع شرق مقبرة البقيع. وكانت السلطات قد هدمت قبل مدة من إعلان التوسعة الأخيرة موقع «ثنية الوداع»، المَعلم الذي كان يودّع النبي عنده سراياه التي كانت تغادر المدينة إلى غزواتها، ليُبنى مكانه جسر. أما مسجد «قباء» فسيبقى بأركانه وأساساته الحالية، لكن معالم كثيرة ستتغير حوله وفي ساحاته، فيما سيطال التجريف عدة مزارع للنخيل تقع في الجهة الجنوبية والجنوبية الشرقية للحرم في حيّي العوالي وقربان، ومنها «مزرعة صريا» التي امتلكها سادس أئمة أهل البيت عند «الشيعة»، إضافة إلى مزارع نخيل معمّرة يشرف على الاهتمام بها «شيعة» من أبناء المدينة يعرفون بـ«النخاولة».
تتابع المصادر بحذر، خشية الملاحقة الأمنية، ذكر أثر التوسعة على أشهر مقبرتين في المدينة المنورة، مقبرة شهداء «أحد» شمال الحرم التي تضم جسد عم النبي حمزة بن عبد المطلب والعديد من الصحابة، ومقبرة البقيع الواقعة شرق الحرم النبوي التي تضم قبور أربعة من أئمة أهل البيت والعشرات من الصحابة، ومصير هاتين المقبرتين بقي مجهولاً مع الأخذ بعين الاعتبار المكانة الدينية اللتين تمثلهما المقبرتان لدى كل المسلمين حول العالم بمذاهبهم كافة.
إضافة إلى مسح آثار المسلمين الأوائل حول الحرم النبوي عن الخارطة، تستهدف توسعة «القرار السامي» بيوت وأرزاق السكان الذين تحدث بعضهم إلى «الأخبار» بحرقة، لما يعانونه جراء إجبار السلطات كل من تقع أملاكه في منطقة التوسعة على تسليمها وفق جدول زمني محدد. وهنا يتحدث أحد هؤلاء شارحاً كيف اضطر إلى أن ينتقل إلى مكان سكنه الجديد الذي يبعد 5 كلم عن الحرم النبوي، بعد أن كان بيته المهدم يبعد مسافة أمتار عنه، وهو يؤكد أنه سيضطر إلى إعادة تغيير مكان سكنه إلى خارج منطقة التوسعة لمسافة 8 كيلومتر في المرحلة الثالثة والأخيرة من المشروع، فيما قال آخر إنه تم إجباره على تسليم بيته للسلطات وتم هدمه، ولم يعوّض مادياً حتى الآن.

التوسعة ستشمل مساحات كبيرة من حي العوالي الشهير؛ ففي جزئه الجنوبي والجنوبي الغربي تم تقييم العقارات من قبل السلطات إيذاناً بالبدء بعملية الهدم والتجريف.
وتشير المعطيات إلى أن أسعار العقارات التي تقع خارج منطقة التوسعة شهدت ارتفاعاً جنونياً فور الشروع بعملية تخمين أسعار الأبنية، حيث بلغ سعر العقار أربعة أضعاف سعر السوق في الأيام العادية، ويتسلم من يعوّض عليه مبلغاً وفق سعر السوق العادي، بمعنى أن خسارة أصحاب الأملاك هي أضعاف ما كانوا يحسبون، وهو ما لمّح إليه الممثل السعودي ناصر القصبي في إحدى حلقات برنامجه «سيلفي»، من دون ذكر تفاصيل المكان والزمان والأحداث والأسماء في المدينة المنورة.
بالتزامن مع استعراض الملك سلمان لإنجازات مشروع التوسعة، كانت تدور نقاشات حادة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، بين ممثلين عن منظمات حقوق الإنسان ومندوب الحكومة السعودية الذي ظهرت عصبيته أمام شاشات التلفزة، مقاطعاً كلمة مندوب منظمة «أميركيون من أجل الديموقراطية وحقوق الإنسان»، الذي تناول جانباً من انتهاكات النظام السعودي بحق الآثار الإسلامية في كل من مكة والمدينة.

يستهدف مشروع التوسعة هدم المساجد السبعة الشهيرة المبنية في محيط المسجد النبوي
مندوب الحكومة السعودية طلب من رئاسة المجلس أن تلزم المتحدث باستعمال «ألفاظ لائقة» عند ذكر بلاده، ما دعا رئيس المجلس إلى إنصاف الحقوقي الذي كان يستعرض وقائع تاريخية بحتة، داعياً إياه إلى إكمال كلمته. هذه الحادثة تظهر مدى انزعاج السعوديين من ذكر تاريخهم الأسود في تدمير آثار الحضارة الإسلامية في الحجاز بشكل خاص.
رئيس «المنظمة السعودية الأوروبية لحقوق الإنسان»، علي الدبيسي، الذي حضر جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، أكد في حديث إلى «الأخبار» أنه بات من الضروري أن يُعدّ ملف كامل يرصد بالوقائع انتهاكات النظام السعودي للآثار الإسلامية في كل من مكة والمدينة المنورة، وتقديمه إلى المؤسسات الدولية المعنية بالحفاظ على التراث الحضاري للشعوب كمنظمة «الاونيسكو»، وأيضاً مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي بإمكانه أن يلعب دوراً فاعلاً في إحراج السعوديين بين الأمم وإجبارهم على إيقاف مشاريعهم التدميرية التي تستهدف إرث الاسلام الذي هو ملك لجميع المسلمين في العالم وليس حكراً على طائفة أو مذهب معين.
ويبقى أن ما تم ذكره في التحقيق هو غيض من فيض انتهاكات النظام السعودي بحق الحضارة الإنسانية والإرث الديني الذي يخصّ جميع المسلمين، وقطعاً ليس من حق السعوديين التصرف بهدم أي معلم أثري منه تحت أي ظرف.




الهدم "ابن" المملكة

السواد الأعظم من مسلمي العالم لا يعلم شيئاً عن مشاريع التوسعة في منطقة الحجاز، ماضياً وحاضراً، وهم يدهشون من فخامة العمران الذي اجتاح الأماكن المقدسة في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة، غير مدركين أن الأبنية والتوسعات التي يرونها في الحج والعمرة، قامت وتقوم على أنقاض آثار ومواقع تاريخية لصيقة بنبيّهم ودينهم، لا يقيم لها النظام السعودي أيّ حرمة، متذرعين بالسهر على راحة الحجيج والزوار عبر التوسعات وتأمين الفنادق والمطاعم. أولى عمليات الهدم في الدولة السعودية الثالثة حصلت في العشرين من نيسان 1926 في المدينة المنورة عندما هدم عامل ابن سعود قباب وأضرحة أحفاد رسول الله وصحابته في مقبرة البقيع إلى الشرق من الحرم النبوي، في حينه لم تكن حجة الهدم التوسعة وراحة الحجاج، بل تنفيذاً لفتاوى علماء الوهابية الذين سبق أن نفذوا هدماً مماثلاً لمقبرة البقيع عام 1805 بعد سيطرة الدولة السعودية الأولى على الحجاز.