بغداد | احتجاجات انطلقت شرارتها الأولى في البصرة جنوباً ضد واقع سوء الخدمات في أغنى مدن العراق التي تعوم على بحر من النفط، واتّسعت لتشمل مناطق محاذية ووسط العراق. خلالها، سقط الشاب البصريّ منتظر غني الحلفي قتيلاً برصاص القوات الأمنيّة، في تظاهرة في البصرة، فبات أحد رموز الحريّة في عراق ما بعد 2003.
«باسم الدين باگونه الحرامية» (باسم الدين سرقنا الحرامية)، ربّما يكون هذا الشعار الذي رفع لاحقاً في ساحة التحرير ببغداد، وفي ساحات احتجاج محافظات بابل والناصرية والبصرة والعمارة، قد أربك فعلاً القوى السياسيّة المتنفّذة في البلاد اليوم، إلى درجة أنّ عفوية إطلاق الشعار دفعت ببعض رموز النخبة السياسيّة الحالية إلى التقليل من شأن المتظاهرين السلميّين في «الجمعة الأولى» (31 تموز 2015) وأنّهم «مجرّد ممثّلين لتوجّهات علمانيّة ويساريّة ليس لها حضور مؤثّر في المجتمع العراقيّ».
«الجمعة الثانية»، 7 آب، كنّا أمام مشهد جديد بحضور حاشد وغير مألوف، عنوانه الاحتكاك الحقيقيّ بين متظاهرين بتوجّهات علمانيّة ويساريّة قبالة متظاهرين يمثّلون تيارات وجماعات الإسلام السياسيّ، لكن ليس تلك التي لها وجود في السلطة اليوم، لكن من تمتلك أجنحة مسلحة تُعتبر القوّة الضاربة ضمن قوات «الحشد الشعبيّ». للمرّة الأولى في بغداد، يُرفع شعار أمام نصب جواد سليم، يقول: «دينكم رياء كلامكم هراء أموالكم نهب...»، فضلاً عن الشعار البارز «باسم الدين باكونه الحرامية». وفي الساحة نفسها، لكن من الجهة المؤدية إلى شارع السعدون، رفع الإسلاميون الذين أتوا للاحتجاج على رداءة الأوضاع أيضاً: «لولا الدين لكانت داعش في ساحة التحرير والكرّادة...». تلاقٍ نادر لم يسبق أن حصل منذ 12 عاماً في عراق ما بعد صدّام.

ثلاثة «أصناف»
تؤلّف الجسم المدنيّ في تظاهرات ساحة التحرير في بغداد


يمكن هنا عدّ ثلاثة «أصناف» تؤلّف جميعها الجسم المدنيّ في تظاهرات ساحة التحرير في بغداد. صنف حضوره طاغٍ جلّهم من المثقفين والشباب من روّاد شارع المتنبي والناشطين غير المؤدلجين، رفع شعارات غاضبة وساخرة، وصلت إلى حدّ تعرية رموز السلطة وقادة الكتل علناً. وصنف من المؤدلجين، أنصار الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذين احتفظوا بالمكان نفسه في ساحة التحرير منذ حضورهم في تظاهرات شباط عام 2011 يوم كان لهم صوت أقوى ووجود أكثر وضوحاً حينها. في حين أنّ الصنف الثالث هو جمع من العائلات والأكاديميّين والطبقات التي سحقها عقد من المرارة والفساد الإداريّ والماليّ، تجد بينهم مثلاً أمّ شهيد مغدور من بين ضحايا «مذبحة سبايكر»، ورجل مسنّ أصابته الإعاقة من انفجار سيّارة ملغمة؛ انتماء هؤلاء إلى الصوت المدنيّ، متأتٍ من شعاراتهم المطلبيّة البعيدة عن العقائد والانتماءات الطائفيّة.
الناقد، محمّد غازي الأخرس الذي ذهب الجمعة الماضي مع ابنه وابنته إلى ساحة التحرير، يقول لـ«الأخبار»: «يمرّ العراق في لحظة مهمّة اختمرت أخيراً. بعد ١٢ عاماً من التغيير، وثلاث دورات تقريباً من النواب والحكومات، نحن أما حراك يبدو صادماً للوهلة الأولى. ورغم المعركة اليوميّة التي تدور رحاها مع الإرهاب والفساد، أمكن ظهور لحظة وعي أستطيع أن أصفها بالمدنية أو اليساريّة الجديدة، وهي بالفعل عفوية وليست ذات صلة بتنظيمات سياسيّة، وهنا تكمن أهميتها وأصالتها». يضيف أنّ «هناك رفض تام لحركات الإسلام السياسيّ التي حكمت وتحكم في العراق، نظراً لما آلت إليه الأوضاع بسببها، بل هناك رفض تام لكلّ الطبقة السياسيّة الحاكمة... ننتظر أن يتمخّض الحراك عن جسم واضح لمعارضة جديدة ربّما تقلب الأوضاع في المستقبل القريب».
الناشط المدنيّ ياسر السالم، يقرّ بولادة حركة مدنيّة احتجاجيّة جديدة بشرائح متنوّعة، الفاعلون فيها هم الناشطون السياسيّون والمدنيون الذين قادوا الحراك الاحتجاجيّ طيلة السنوات الماضية. ويضيف السالم أنّ «اليساريين كقوّة سياسيّة وكأفراد (يقصد الحزب الشيوعيّ العراقيّ)، ما زالوا فاعلين في هذا الحراك، ولديهم رؤية واضحة لهذه المرحلة». إلا أنّ السالم يختلف مع الرأي القائل بولادة تشكيل سياسيّ يساري جديد، لأنّ ذلك «غير واضح حتّى الآن. جميع الطروحات الحالية تركّز على أهداف الحركة الاحتجاجيّة».
الشاعر والصحافيّ صفاء خلف، وهو ابن المدينة التي قدحت شرارة احتجاجات 2015، يعتقد أنّ التظاهرات في المحافظات، وبعدها بغداد، أفرزت حالة وعي جديد ترتكز على العفوية وضياع الفرصة الأخيرة للأحزاب والكتل السياسيّة بعد انتخابات ٢٠١٤، وبالتالي فإنّ «الحالة المورفينية» التي كانت تحبط رغبة العراقيّين في التغيير سقطت بشجاعة تقدّم الوعي وبفعل «تحوّل نوعي في التفكير الشعبيّ سياسياً».
المعطى الثاني الذي يلمسه الشاعر البصري يكمن في «اتّساع قاعدة الرفض الشعبيّ للحكم الدينيّ، أو بتعبير أكثر موضوعية، انهيار سلطة العمامة السياسيّة مقابل احتفاظ سلطة العمامة الفقهيّة بقوّتها، ما يعني سقوط مقولة الإسلام السياسيّ في إدارة الحكم الرشيد، وهو ما اتّضح في أيقونة شعارات الاحتجاج (باسم الدين باگونه الحرامية) الذي مثّل جوهر تغيّر المزاج السياسيّ وربّما الانتخابيّ في ما بعد». وعمّا يمكن تسميته بـ«اليساريّة الجديدة»، يعلّق خلف قائلاً إنّ «الشباب العفوي غير المؤدلج والذي يمثّل دعامة الصحوة المدنيّة في الشارع العراقيّ، هو الأصدق، بعكس محاولات فرض المدنيّة المؤدلجة ذات المنطلقات السياسيّة، والتي ترفع شعار (الدولة المدنيّة) دون حراك حقيقي».
قراءة ثانية من محافظة النجف، يوردها الشاعر فارس حرام، رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب هناك، فهو يرى أنّ «التوجّه العام للمتظاهرين مدنيّ، وهو ليبراليّ علمانيّ في جوهره، أمّا اليساريون فيشكّلون نسبة مقبولة من الجمهور المنتفض، لكنّهم ليسوا الأكثرية برأيي، ذلك أنّ في النجف الآن جيلاً جديداً تربى على قيم العولمة وما تتضمّنه من توجه ليبراليّ فيها، فنشأ ليبراليّاً علمانيّاً، وما زاد في توجهه هذا فشل الإسلام السياسيّ الذريع في حكم البلاد».