الجزائر | يبدو أنّ الرئاسة الجزائرية تواصل تجريد جهاز المخابرات من صلاحيات واسعة كان يحوزها في مقابل منحها لقيادة أركان الجيش برئاسة أحد أخلص رجالات الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الفريق أحمد قايد صالح. ويثير هذا المشهد جدلاً واسعاً في البلاد بين من يتهم الرئيس بمحاولة إضعاف جهاز المخابرات تمهيداً لإقالة قائده، الفريق محمد مدين (الجنرال توفيق)، المعروف بأنه أحد أقوى رجالات النظام، وبين من يقلّل من ذلك ويرى أن ما يحصل ليس إلا اتخاذ قرارات عادية تندرج في سياق تحديث المؤسسة العسكرية.
في آخر قرار للرئيس بوتفليقة، سحب من مديرية الاستعلام والأمن (المخابرات) الإشراف على «قوات التدخل السريع» المعروفة اختصاراً بـ»جي أي سي»، وهي فرقة من قوات النخبة المدربة على أعلى مستوى لمواجهة المجموعات الإرهابية، ما أضعف قوة جهاز المخابرات على الأرض، وجعل قيادة أركان الجيش تحظى بالإشراف الكامل على جل القوات المشكلة للمؤسسة العسكرية.
ولم يكن التعديل الأخير استثناءً، فقد سبقته جملة قرارات بدأ الرئيس بوتفليقة باتخاذها قبل سنتين (2013)، تصب كلها في نفس الاتجاه، أي أنها تسحب إدارة أجهزة عسكرية من جهاز المخابرات لتضعها تحت تصرف قيادة الأركان التي يشرف عليها الفريق قايد صالح ــ رجل ثقة الرئيس بوتفليقة في الجيش ونائبه على رأس وزارة الدفاع الوطني.
وفي هذا السياق، أُلحقت إدارات مركزية في الجيش على غرار «أمن الجيش» و»دائرة الاتصالات» و»الأمن الرئاسي» بقيادة الأركان، كما تم إلحاق «مديرية الشرطة القضائية» التي حققت في السابق في كبرى قضايا الفساد التي تورط فيها مقربون من الرئيس بالقضاء العسكري عوض جهاز المخابرات، وقرر الرئيس أيضا سحب كل ضباط المخابرات من الوزارات والأجهزة الإدارية المدنية في الدولة.
وبذلك لم يبق تحت تصرف الفريق محمد مدين (الجنرال توفيق) وهو قائد المخابرات، سوى ثلاثة أجهزة كبرى هي «مكافحة التجسس» و»الاستخبارات الخارجية» و»كومندوس مكافحة الإرهاب»، والتي على الرغم من أهميتها إلا أنها تركز مهمات المخابرات في مسؤوليات محددة ومختصرة بعدما كانت تحظى في السابق بصلاحيات واسعة تتيح لها مراقبة كل ما يجري في قطاعات الدولة المدنية والعسكرية.
واللافت أن الرئيس بوتفليقة الذي يعاني من متاعب صحية جمّة، قد رفع من وتيرة التعديلات في المؤسسة العسكرية خلال الفترة الأخيرة، بعدما شاع خبر عن اختراق أمني خطير وقع ليلة العيد (عيد الفطر) بالقرب من مقر إقامته في منطقة زرالدة بالضاحية الغربية للعاصمة، وقد أقال الرئيس إثر ذلك مدير الأمن الرئاسي، الجنرال كحال مجذوب، وجعل جهازه تحت وصاية الحرس الجمهوري الذي عين له قائداً جديداً أيضاً، كما أقيل الجنرال بن داود، مدير الأمن الداخلي، وأسند الجهاز لقيادة أركان الجيش.


صراع «العصب»

وتنتشر بقوة في الجزائر فرضية الصراع بين العصب (بمعنى الأجنحة) الحاكمة، ويرى أصحابها أن النظام الجزائري ليس على قلب رجل واحد، وفيه مراكز قوى مسيطرة ــ أهمها مؤسستا الرئاسة والمخابرات ــ تتصارع على كسب مزيد من النفوذ داخل النظام، وينطلقون من هذه الفرضية في تحليل كل سلوكات النظام وتناقضاته.

منذ عامين تحديداً،
تنتشر بقوة فرضية الصراع بين الأجنحة الحاكمة


وتعززت تلك الفرضية قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة (نيسان/ أفريل 2014)، بعد الهجوم «التاريخي» الذي قاده الأمين العام لحزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم، عمار سعداني، وأحد شديدي الولاء للرئيس بوتفليقة، ضد قائد المخابرات الجنرال توفيق، واتهمه بالفشل في حماية الرئيس محمد بوضياف من الاغتيال (عام 1992) وفي وقف هجمات إرهابية استهدفت أجانب في الجزائر ودعاه إلى الاستقالة من منصبه، وفهمت تلك التصريحات وقتها بأن الجنرال توفيق كان ضد ترشح الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة.
وفي المعارضة، يرى رئيس «حركة مجتمع السلم ــ حمس» (من التيار الإسلامي)، عبد الرزاق مقري، أن القرارات الأخيرة للرئيس بوتفليقة أثبتت أن هذا الصراع واقع وليس شائعة، وقال في حوار مع جريدة «الخبر» إن فرضية إقالة قائد جهاز المخابرات مطروحة وقد تقع «بشكل دراماتيكي أو بالتوافق بين الطرفين، وهناك احتمال أن لا تقع أصلاً». كما يرى حزب «التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية» في بياناته أن التعيينات في المؤسسة العسكرية تندرج في إطار «صراع العصب»، وتهدف إلى إلهاء الرأي العام عن حقيقة أن الرئيس عاجز عن إدارة البلاد.

استغلال سياسي

وعلى عكس ذلك، يرى الكاتب والمحلل السياسي نجيب بلحيمر أن «القرارات الأخيرة في المؤسسة العسكرية كانت مشتركة بين الرئيس بوتفليقة والجنرال توفيق، وأن ما يثار من صراع بينهما هو مجرد وهم لشغل الرأي العام الوطني». ويقول بلحيمر، في حديث إلى «الأخبار»، إن إعادة هيكلة المخابرات كانت مطروحة منذ سنوات، مضيفاً إن من المفيد التنبيه إلى أن المخابرات شهدت عملية إعادة هيكلة في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكانت عميقة جداً، لكنها لم تخرج إلى العلن، لأنه لم تكن هناك حاجة إلى الاستغلال السياسي لتلك العملية. ويشرح بلحيمر أن «فكرة إعادة تنظيم المخابرات طرحت قبل سنوات بما يفضي إلى إنشاء جهاز مخابرات عامة يكون تابعاً للرئاسة، في حين تتولى الاستخبارات العسكرية مهمة حماية الجيش، لكن هذا المخطط كان مبهماً، ولم يتم عرض تفاصيله، فمن المعلوم أن هذا الجهاز سري، وكل القرارات التي تتخذ بشأنه لا تنشر في الجريدة الرسمية، ولا يصدر أي بيان رسمي بشأنها». ويخلص المحلل السياسي إلى القول إن «ما شهدناه خلال السنتين الأخيرتين هو تحويل موضوع إعادة هيكلة جهاز المخابرات إلى ورقة سياسية تخرجها الجماعة الحاكمة من أجل تبرير بقاء بوتفليقة في الحكم، رغم عجزه عن أدائه مهماته، والقول بأنه تجرى الآن عملية الإصلاح العميقة التي عجز كل الرؤساء السابقين عن القيام بها».
ومن وجهة نظر عسكرية، يعتقد اللواء المتقاعد عبد العزيز مجاهد أن التغييرات الأخيرة في المؤسسة العسكرية «طبيعية في إطار إعادة التنظيم والتحديث الذي تعرفه المؤسسة العسكرية». ويضيف، خلال ندوة صحافية، إن «القصص التي تروى عن صراع بين العصب هي كلام شارع ليس له أساس أو معنى». واعتبر مجاهد أنه «حتى الولايات المتحدة بعد هجمات سبتمبر 2001 قامت بتحديث جهازها الأمني».






«الوقت ليس مناسباً»


يقول العقيد المتقاعد في جهاز المخابرات، محمد خلفاوي، إن «ما يجري حالياً هو عملية تفكيك لمديرية الاستعلام والأمن وإدخال مكوناته تحت قيادة أخرى»، مشيراً إلى أنه «لو كانت إعادة هيكلة طبيعية للحد من سلطة المخابرات لتم ذلك باستحداث قوانين تنظم عملها، أما أن يتم تفكيكها نهائياً فالنوايا من وراء ذلك لا يمكن أن تكون حسنة». ويوضح خلفاوي، في حديث إلى «الأخبار»، أن «الوقت ليس مناسباً لهذه القرارات التي تتم وفق منطق الإهانة، وذلك ما من شأنه المساس بمعنويات الجيش وخدمة مصلحة مافيا المال»، متسائلاً بأن «أبناء جهاز المخابرات الذين تكونوا وصرفت عليهم الملايين إذا أصبحوا دون عمل اليوم، كيف ستكون معنوياتهم؟».
وحول إمكانية إقالة قائد المخابرات، يقول خلفاوي إنه «لو استمرت هذه الوتيرة في التعديلات، فإن الجنرال توفيق سيجد نفسه مديراً لمخابرات لا أثر لها، وهذا ما يعدّ إهانة في حقه باعتباره مجاهداً وحارب الإرهاب، ولا يخدم بناء مؤسسات في الدولة لا تزول بزوال الرجال كما يدّعي المسؤولون».
ويعتقد خلفاوي أن الشائعات المسوقة حول اختراق أمني بإقامة الرئيس في زرالدة هي مجرد مناورة من محيط الرئيس لإيهام الرأي العام وتبرير إلحاق الأمن الرئاسي بالحرس الجمهوري بدل المخابرات.