قد يكون سعد الحريري لا يقرأ. لكن الواجب يفترض الاستمرار في الرهان على أن يفعل، وخصوصاً في لحظات اشتداد الخطر المتولد من سوء التفاهم الكبير، بين بعض من حوله والمحسوبين على تياره، وبين قسم كبير من المسيحيين.لا ينسى السياديون من المسيحيين، وفي مقدمهم جيل عون، أن التركيبة الأساسية للوصاية السورية كادت تترنح وتتداعى وتسقط سنة 1992. يوم نجح المسيحيون ــ ومعهم سياديون غير مسيحيين أيضاً ــ في تجسيد وحدة موقف. قاطعوا الانتخابات النيابية، فكادوا يقطعون طريق الوصاية صوب تكريس نظامها و»قوننة» وجودها.

يومها، في لحظة ذروة الأمل المسيحي باستعادة الوطن، قررت ترويكا الوصاية السورية ــ السعودية ــ الأميركية، الإتيان برفيق الحريري. منذ اللحظة الأولى، أدرك المسيحيون أن الرجل جيء به لضرب انتفاضتهم. استقدمت هالته المالية وأوهام السلام وبواخر الكهرباء وإعادة الدولار ثلاث ليرات وسراب العام ألفين والقامة التي تزيح الهواء في سيرها... كل ذلك من أجل وأد انتفاضة الاستقلال الأولى. نجح الحريري ومن جاء به. وهُزم السياديون، وفي مقدمهم المسيحيون.
بعد سنتين من وصول الحريري، كان النبض السيادي لا يزال يضج في العصب المسيحي. كان المناضلون قد ملأوا المعتقلات ومراكز المخابرات واستمارات «عدم تعاطي السياسة» وغيرها من موبقات نظام تلك المرحلة. لكن السياديين كانوا لا يزالون مطمئنين إلى أن تركيبة الوصاية فوقية عابرة. احتلت المؤسسات وأخذت الحكام، لكنها لم تطاول الشعب. وظل السياديون يعدون للمعركة التالية مع انتخابات 1996. فجأة، جاءت الضربة الحريرية الثانية. في حزيران 1994، مرسوم تجنيس بتوقيع حريري خالص، يؤشر إلى نية التفشي من الجغرافيا إلى الديموغرافيا. أكثر من ربع مليون غير لبناني، أضافهم الحريري بسطرين وثلاثة إمضاءات. وقيل يومها بمزيد من الإطعام للأفواه الشرهة بين بيروت ودمشق...
تأجلت آمال السياديين سنة واحدة فقط. 1995، موعد نهاية ولاية بابراك كارمل ذاك الزمان، الياس الهراوي. هي فرصة في اعتقاد السياديين. مجرد وجود استحقاق رئاسي سيفتح الباب أمام تدخلات دولية وحد أدنى من لفت النظر إلى ذلك البلد المدعوس تحت جزمتين. لكن مصالح رفيق الحريري ذهبت في غير اتجاه. جاء بعبد الحليم خدام، أبشع صور العداء السوري للبنان، لتهنئة الهراوي بعيد شفيعه ــ قال ــ في زحلة. أُقِرّ التمديد، وبلغت قدرته أن وضع القرار على لسان حافظ الأسد نفسه، في تصريح إلى صحيفة مصرية. يومها قيل إن نائباً ظريفاً وقف من دون موعد على باب مرجع نيابي. قال له: قيل لي إنكم تبحثون عن رئيس ماروني، وإنكم تطبقون قاعدة من سيئ إلى أسوأ. فها أنا سأنتظر عندك، علّ الدور يصل إليّ. فضحك المرجع وقال له: لا لزوم. لقد ذهبوا مباشرة إلى الأسوأ. قرروا التمديد!
هكذا هي صورة الحريري في وجدان المسيحيين السياديين. لا لزوم لمزيد من فتح الصفحات. من اللقاء التشاوري وأول هجوم على بكركي، إلى مذكرات البطريرك إلى كل ذكرى ومفصل... حتى اغتيل الرجل. فهب هؤلاء أنفسهم للانتصار لاستشهاده. طيلة الأسابيع الأولى التي تلت 14 شباط، كان المسيحيون السياديون وحدهم في الساحة. كانت غنوة جلول تقمعهم كلما ذكروا كلمة سيادة أو سوريا. وتعيد لازمة أن ما تريده هو العدالة فقط. في 14 آذار، منع عون من مخاطبة جمهوره. وخرجت أخت الشهيد بـ «إلى اللقاء سوريا». بعد يومين، ركب الحلف الرباعي مع طهران ودمشق ضد ميشال عون والمسيحيين، ووقعت الكارثة المستمرة حتى اليوم. كارثة أخطر ما فيها هذا الشعور لدى المسيحي بأن الوصي السوريّ كان وصيّين: أجنبي وداخلي. وأن التفاعل بينهما كان تكاملياً تبادلياً شاملاً. كارثة أسوأ ما فيها تكوّن انطباع عند ضحايا الاحتلال وشهداء الوصاية، بأن سبب تضحيتهم، وجلاد شهادتهم لم يكن المحتل الخارجي الذي ذهب وسقط وزال، بل الشريك الطامع الذي استثمر واستغل واستفاد وخدع...
وسط هذا المشهد بكليته، ظل شخص مستقبلي واحد خارجه. هو سعد الحريري. ظل في الوجدان المسيحي السيادي غير مسؤول عن المرحلة الماضية. غير مذنب وغير مخطئ. ظل في شيء من هالة الضحية مثلهم. لم يحمل وزر الوصاية. ولم يشارك في عهود السنيورة. ظل الرجل في ذهن المسيحيين فرصة ممكنة، لشراكة وطنية ضرورية. ظل احتمالاً قائماً، لإعادة بناء دولة وإنجاز عصرنة وديموقراطية، بقدر تطلع شبابه وشباب السياديين، أو على الأقل بقدر الممكن منها... ظل الرجل كذلك، حتى أعطى عهداً وأكثر إلى ميشال عون.
ليس سعد الحريري ملزماً بأعباء الآخرين. ولا بسقطاتهم. فلماذا يحملها؟ لماذا يرميها عليه جماعته من لبنانيين أو سعوديين؟ هل يصدق أن مزاج المسيحيين هو ما يقوله له بضعة موظفين من حوله؟! هل يريد أن يقتنع بأن المسيحيين هم حفنة أصحاب المال الملوث المقيمين على موائد سلطته؟ هل يكرر فعلة وسقطة كل من يصل إلى اليرزة، فيصير مقتنعاً بأن شعبيته صارت ساحقة، لمجرد أن زمرة فاسدة تمرغت تحت كل جزمة في تاريخ لبنان، تتهافت اليوم فطرياً لتقبيل جزمته؟
إلى سعد الحريري، نصيحة صادقة حريصة محبة: ثمة أكثرية مسيحية تعتقد أن من معك ومن قبلك ومن يدعمك، يعمل بشكل منهجي لإقامة لبنان آخر. لبنان «داعشي سياسي»، معادلته أن تكون خدمة دينه وعجز كهربائه يوازيان كل صادراته واقتصاده. فماذا يبقى لأبنائه؟ يبقى لهم «شقفة» أرض، وشوية اولاد، فيبيعون الأرض للحاكم، ويهاجر أولادهم لإعالة آخر من سيبقى من عجائز مسيحيي الشرق. هكذا يفكر فيكم المسيحيون. لا تصدق موظفيك ولا مخبري الفاتح من الشمبانيا...
لا يزالون يعتقدون أنك لست ملوثاً بعد. فهل سيستمرون في ذلك طويلاً؟ الأمر عائد لك.