ليس من السهل أن يَعُدّ المرء سنواته، فكيف بالأحرى إذا كان الأمر يتعلّق بعمر جريدة يوميّة؟ وفي هذه المرحلة؟ وفي هذا البلد؟ كل سنة من عمر «الأخبار» التي أطفأت أمس شمعتها التاسعة، تساوي دهراً من العوائق والتحديات والمصاعب، والنقاشات المضنية، والأسئلة المعلّقة. عند كل مفترق طرق، نسأل أنفسنا كيف وصلنا إلى هنا، وكيف يمكن أن نستمرّ؟ وهل سننجح في مواصلة الطريق، بالنوعيّة نفسها التي أخذناها على عاتقنا منذ البداية، رغم هيمنة الإسفاف حولنا، وفقدان المعايير، وغطرسة خرتيت المال الخليجي، ومشاريع الدعوشة، وسموم المنظمات الغربية غير الحكوميّة التي تستدرج نخبنا إلى استلاب وطني وسياسي، وغيبوبة «مدنيّة» مطمَئِنّة؟
كيف نوصل خطابنا البديل الى الرأي العام المحاصر، في ظل التضليل الإعلامي الهائل، وتمكّن الانتهازيين والمرتزقة، وتفشّي العصبيّات، وطغيان الأهواء والغرائز، وتزايد البؤس والتطرّف، وتراجع القراءة، وانحسار الهامش العقلاني في الحياة العامة؟
كل سنة، ونحن نجدد العهد لقرّائنا، نسأل كيف تمكنّا حتى الآن من رفع التحدّي، في جمهوريّة الطوائف والمحسوبيات والفساد؟ نسأل: كيف عسانا نشْبه أنفسنا أكثر مستقبلاً، ونبقى أوفياء للمبادئ التأسيسيّة وسط الرمال المتحرّكة؟ كيف نستأنف النضال ضدّ الانحطاط المهيمن الذي يشدّ بنا إلى الخلف؟ كيف نحقق بعضاً من طموحاتنا: في ممارسة النقد، في التجاوز والتجديد والابتكار، في دفع عجلة التغيير والعدالة والتقدّم؟

لدينا موهبة ــ لم نبحث
عنها، لكنّنا لا نتبرّأ منها ــ في إنتاج «الخصوم»
كيف نوفق بين مشروعنا المهني من جهة، ثم خيارنا الديموقراطي العلماني من الجهة الأخرى، وبين انحيازنا الحاسم ــ في هذه المعركة المصيريّة التي تشهدها المنطقة ــ ضدّ العدو الصهيوني، ومسخ التكفير الذي أنتجته الرجعيات العربية، ووحش الاستعمار الذي لا يشبع من استباحة دمائنا وثرواتنا وحقوقنا؟ كيف نحصّن أنفسنا ضد طاعون المذهبيّة الذي يستعمله الاستعمار لتمزيقنا، كما ذكّر السيد حسن نصرالله أمس في خطاب وادي الحجير؟
كل سنة نولد من جديد. نستعيد طموحاتنا الأصليّة: أن نصغي إلى مجمل وجهات النظر، ونراهن على الاختلاف، ونقسو على خصومنا من دون تخوين، ونجاهر بخياراتنا من دون تعصّب وإلغاء للآخر، في منطقة لا مكان فيها لترف الحياد. أن نفضح الآفات من دون شعبويّة، وننتقد ذاتنا من دون جلدها، ونحرك المبضع في الجرح الجماعي بلا ساديّة، ونرفع قبعتنا حين يلزم الأمر لـ«قيادات بمستوى الوطن» (بتعبير السيد حسن)، من دون ممالأة، أو استزلام، أو طمع بمكاسب ذاتيّة… أن نتعامل مع النظام الطائفي، من دون أن نتبنى وعياً طائفيّاً. أن نكون صوت الفقراء والمهمّشين والمستضعفين، والمواطنين المنسيين والأفراد المستقلّين، ونصمد في الوقت نفسه، في أدغال السوق المحكومة بسفاح القربى بين السياسة والبزنس، الخاضعة للإقطاع الطفيلي، وبارونات المال، ومافيات الاقتصاد الريعي. والأهم دائماً: ألا نضيّع، حتّى في أحلك الظروف، بوصلة فلسطين… هذا هو رهان «الأخبار» الصعب، والعقد الذي تجدده اليوم مع نفسها ومع القرّاء.
إذا كان من مكان للبوح والمكاشفة في هذا اليوم، فاعلموا أن كل سنة من عمر جريدتنا انتصار على الذات، وعلى الظلام المحيط، وعلى الانهيار المحدّق. وكل سنة تمرّ بسلام، تؤكد لنا أكثر حاجة الإعلام العربي إلى تجارب مشابهة لـ«الأخبار» في هذا الزمن المغشوش، في هذا المستنقع العظيم، حيث تنتحل الديكتاتوريّة صفة الحريّة، وتلبس الهمجيّة قناع الدين، والردّة قناع الثورة، وترفع التبعيّة شعارات السيادة والوطنيّة، والعملاء راية القوميّّة والعروبة… وحيث يتحوّل (بعض) المجتمع المدني نادياً لشهود الزور… وتؤنسن «التقدميّة» القاتل الإسرائيلي السبارطي، ويدافع السفير السعودي عن حريّة التعبير، ويدعو ملوك الطوائف إلى إلغاء الطائفيّة السياسيّة، والانعزاليّون إلى الانفتاح على الآخر، والليبراليّون إلى العدالة الاجتماعيّة… وماذا بعد؟
اليوم، نعرف أكثر من أي وقت مضى أننا غير معفيين من خوض الرهانات الصعبة، مهما كانت معقّدة وإشكاليّة. ندخل عامنا العاشر، ونحن نمشي على الحبل المشدود إيّاه، بثقة، فوق أنظار المراهنين على موتنا. نعرف أن علينا التعايش النقدي والذكي والنزيه مع التناقضات التي يفرضها واقعنا الشائك. ربّما لم يشهد تاريخ الإعلام العربي الحديث حالة مثل «الأخبار». جريدة عشّاقها بعدد كارهيها، وكارهوها يخفون انبهاراً سريّاً بها، ومعسكر منتقديها يضمّ الأصدقاء قبل الخصوم… كل ذلك من دون ذكر الطفيليين الذين يعتاشون كالعلق على التجريح بنا، واستنساخ تجربتنا، إنما بلا روح وبلا أفق فكري.
صحيح أن لدينا موهبة ــ لم نبحث عنها، لكنّنا لا نتبرّأ منها ــ في إنتاج «الخصوم»، لصداميتنا وجرأتنا وحاجتنا الوجوديّة إلى كشف المسكوت عنه وإزعاج الضمائر الخانعة. ربّما تسرّعنا أحياناً، أو تمادينا في نزعتنا الصداميّة أحياناً أخرى. ربّما ارتكبنا المبالغات التي يسمّيها بعضنا هفوات. نحن أوّل من يعترف بالأمر، واجتماعات التحرير الصاخبة شاهدة على ذلك. لنعترف بأنّه ليس من السهولة في شيء احتواء الغضب، أمام مشهد المجزرة، مجازيّة كانت أو حقيقيّة. لكنّ القاعدة تبقى ضبط النفس، والدفاع عن النقاش الهادئ على طريقة جوزف سماحة. والهدوء لا يمنع القسوة، ولا يعني التسوويّة والمهادنة طبعاً. أما الرقابة الحقيقية والوحيدة التي نعترف بها، فقد كانت وستبقى رقابتكم، ومحاسبتكم لنا. لكن لا تنسوا أن جريدة تحمل كل هذه الطموحات، والخيارات المتناقضة ظاهريّاً، لا يمكنها أن تعزل نفسها في برج عاجي، وتمتنع عن التفاعل مع الواقع بوحوله وحقائقه الفجّة. المهمّ ألا يغلبنا الراهن البائس، وأن نبقى نمتلك مسافة نقديّة، وقيماً بديلة للارتقاء به وتغييره. ليس بإمكان القبطان أن يغيّر اتجاه الريح، لكن مهارته تقتضي أن يتحكّم بكيفية توجيه أشرعته. نعم، نحن جميعاً في قلب العاصفة، ولهذا السبب على الأقلّ لا بأس من وجود «الأخبار». فكم من وجهٍ غاب، وكم قناعٍ سقط، وكم فكرة تاهت، وكم وهمٍ تبدد... لكن أيضاً: كم حلماً سيبقى؟ الطريق طويلة وشائكة، فلنواصل معاً!