مؤسف جداً أن يقول سعد الحريري إنّ مسألة كسر ميشال عون، أو النية بحصاره ومحاولة عزله، مجرد كذبة صدقوها. لأنّ قولاً كهذا يعيد فتح الجراح القديمة، وصولاً حتى أزمات اليوم.تطول كثيراً وقائع الأعوام العشرة الماضية. يظل عون يرددها. لأنها محفورة في ذاكرته بألم النكران ومرارة العقوق: كيف زاره وفد الحريريين في باريس قبل عودته إلى بيروت، ليكتشف الرجل فوراً أن شركاءه في السيادة يستخدمون معه لغتين متناقضتين خبيثتين.

يقدمون إليه شال الثورة على الفطور، ويحرضون مسؤولي الخارجية الفرنسية ضده على الغداء. بعدها مشوار العودة والوقوف وحيداً أمام ضريح رفيق الحريري في 7 أيار 2005. بعدها وقبلها أصلاً، الحلف الرباعي وتركيب اللوائح وخطاب التحريض من بيروت إلى الضنية. ثم حكومة الاستقلال الأولى من دون عون. لأن أحدهم همس في ذهن الحريري: أمامك فرصة لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد. أولاً، تضرب تكتله النيابي الناشئ، بالتفريق بينه وبين الطاشناق وإيلي سكاف. ثانياً، تستفرده وتظهره لاهثاً إلى مقعد وزاري، على أمل السراب الرئاسي المقبل. وثالثاً والأهم، تثبت له ولكل المعنيين، أنّ سبعين بالمئة من المسيحيين توازي صفراً في ميزان الزمن الجديد... وتطول لائحة الاعتداءات. بينها ما هو سياسي، وبينها ما هو شخصي بلغ حد الإساءة والتجريح. إلا إذا كان المعني بارتكابها قد نسي بماذا تفوه أول مرة شاهد كاميرا تابعة لمحطة عون... فيما الكاميرا والتسجيل لا ينسيان!!
في المقابل، تكرّ لائحة مبادرات عون. بعضها بات معلناً وبعضها الآخر لا يزال طيّ أسرار المجالس. من قريطم في تموز 2005، إلى باريس في تشرين الثاني 2007، بعد وساطة مكتومة من آذاري وعسكري. إلى منزل مكاري البعيد جداً في الرابية المحاذية، ثم باريس مجدداً، وصولاً إلى بيت الوسط. وبينها محطات سعودية وأخرى خفيّة ومنسية. كلها بادر إليها عون. وكلها كانت تحت عنوان المقتضى الميثاقي وضرورات التوازن لإنقاذ البلد. وفي كل مرة كانت الخطوة تقع في خطيئة انطباع الضعف أو الحاجة أو الطلب أو الغرض أو المنتهي... تماماً مثل تخرصات «الممر والمقر» الأخيرة، حول هلوسات متخيلة لخطاب السيد.
كل هذه يمكن طيّها في حساب ما إذا كان المقصود كسر عون أو الإجهاز عليه. لكن ماذا عن الملفات الوطنية الأساسية؟ وهي في حساب عون نفسه، كما في حساب الميثاق والعيش المشترك، بضع قضايا جوهرية. منها مواقع مرجعيات الجماعات في النظام والمؤسسات والسلطة والحكم. ومنها قانون الانتخابات، وإدارة شؤون الناس، وإدارة شأن الدولة.
مثلاً، حين يكون ممنوعاً على الزعيم المسيحي ــ مع أل التعريف لـ»الزعيم» ــ أن يكون رئيساً للجمهورية، ماذا يبقى لتلك الجماعة في الدولة؟! فالبديهي لدى الجماعة السُّنية أن يكون زعيمها مرشحاً لرئاسة الحكومة. مع ما لهذا الموقع من صلاحيات سلطانية، ليست مصادفة أن تحتكر لها وله وحده، سرايا عثمانية، ممنوع على نائبه أن يخصص له فيها مكتب تحت الدرج. وحين يكون بديهياً لدى الجماعة الشيعية أن يكون زعيمها مرشحاً لموقع رئاسة البرلمان. يصير السؤال ملحاً ضاغطاً: أين موقع المسيحي الأول في الدولة؟ وزير؟ رئيس كتلة نيابية؟!
فلننسَ الرئاسة، وعون جدي في استعداده لنسيانها مقابل طرح إنقاذي إصلاحي كامل، لكن ماذا عن باقي البنود الميثاقية؟ قانون الانتخاب ممنوع بحثه؟ حتى ممنوع على الحلفاء من المسيحيين مفاتحة الحريري به. ننتقل من السلطة إلى الناس، هذا الشعب المسحوق تحت مركزية سلطة بيروتية تدوس آخر ما بقي من كرامته مع خبزه وإنمائه، ممنوع أيضاً البحث في قانون لامركزية لإبقائه في أرضه؟! منذ ربع قرن، شطبت الكلمة المدرجة في الطائف من نص الدستور. ثم صار ممنوعاً وصول أي مشروع لامركزية إلى مجلس النواب، بعد أن سدّت الحكومات الحريرية طريقه عبر مجالس الوزراء المتعاقبة. لماذا؟ كي يكون نزوح الناس من قراهم خطوة أولى لبيع أرضهم ومن ثم هجرتهم النهائية، تحت طائلة استعبادهم في نظام العاصمة ــ الدولة ــ الأمة؟!
تبقى إدارة الدولة، هنا أيضاً ممنوع منذ نحو 20 عاماً، إقرار سلسلة رتب ورواتب لهذه الدولة. لماذا؟ حرصاً على ربحيات المصارف شبه المؤممة طبعاً. لكن أيضاً كي لا تعود وظيفة القطاع العام جاذبة لأبناء جماعة خرجت من الدولة ولا نية للسماح لها بالعودة إليها. أصلاً، ماذا كان يشتغل لبنانيو الأطراف، من كل الطوائف، وخصوصاً المسيحيين؟ أسلاك عسكرية ومدارس رسمية وبعض استثمارات كنسية. هي كل ما ترك لعيش كريم للناس في رميش وعين إبل والقبيات وشدرا والقاع وراس بعلبك. هكذا، حين يرفض أحدهم أن تعود وظيفة القطاع العام كافية لحياة بكرامة، يكون المقصود لهؤلاء خصوصاً، أن يموتوا بكرامتهم، أو أن يحيوا من دونها. نهج اقتصادي منهجي كامل، توج بضرب الاقتصاد المنتج وتفريخ اقتصاد ريعي مستتبع.
وعلى سيرة تلك الإدارة العامة، يستحق الأمر جدولاً شاملاً لكل وظائفها الأساسية، ولأسماء شاغليها وهوياتهم. ليطرح السؤال التحدي عندها: هل من موظف سُني كبير واحد، لم تعينه مرجعية طائفته السياسية؟ الأمر نفسه شيعياً ودرزياً. لكن ماذا عن المسيحيين؟ استمرار لنظام الوصاية الذي أرسى معادلة، أن ما نقص في نص الطائف السوري من فائض قوة مفترض للسنة والشيعة والدروز، تأخذه مرجعياتهم من ذمم التفليسة المسيحية، وزراء ونواباً وموظفين؟!
قد يكون هذا الكلام الطائفي مقيتاً برمته. وهو كذلك. لكن ماذا عن زواج مدني اختياري، كخطوة أولى لإسقاطه؟! هذا أيضاً ممنوع، من مشروع الهراوي الذي عطله الحريري، إلى ثورة خلود ونضال، التي عطلها حريري آخر.
ماذا بقي لنا؟ ماذا بقي لميشال عون؟ كل هذا ولا تريدون كسره؟! ماذا لو أردتم إذن؟! فلنتصور الكارثة... وتقولون: «يا عيب الشوم»!