يجلس المزارعون السبعة في العاقورة (جبيل) في شكل دائريّ في بستانٍ للتفاح. يُسرع أحمد، أحد العاملين، إلى إحضار الطاولات الصغيرة قبل تقديم التوت البرّي في صحون بلاستيكية. العمل في أراضيهم محصور حالياً في الريّ. لذلك، أداروا ماكينات الريّ وأتوا يتحدثون عن همومهم «لأن قلتي بدك تنقلي صوتنا»، يقول بولس خطار. ويشير جازماً إلى أنه «لا أحد يتعلق بأرضه مثل أبناء العاقورة».
هو عينّة من أشخاص غادروا منطقتهم خلال الحرب الأهلية ثُمّ «تركت أولادي كي أعود. وما بدعس برّا العاقورة ما بين 17 آذار و17 كانون الأول». صرف الكثير من الأموال من أجل تحسين بستانه: «تربيت هنا ومن غير المُمكن أن أُغادر. ذلك اليوم لم أشارك في حفلة عيد ميلاد ابني من أجل رشّ الأرض». وهو واثق بأنّ ما من «تفاح مثل تفاحنا، لكن في المُقابل لا أحد يهتم بنا». تعلو نبرة صوته حين يبدأ بسرد مظاهر تركه: «أولاً الدواء الذي نشتريه غير مُختبر وسعره مُرتفع. ثانياً، لا يوجد إرشاد للمزارع. ثالثاً، لا يوجد تعاونية زراعية، وبالتالي نضطر إلى أن نبيع بالسعر الذي يفرضه التجار علينا. والأهم أنه لا يوجد تسويق ومراقبة ومُساعدات».
جريس مطر يأخذ الحديث بمنحى مذهبي آخر حين يقول بنبرة حاسمة: «التفاحة المارونية لا أحد يهتم بها». يتحدث عن ملفّ وصل إلى هيئة الإغاثة من أجل التعويض على مزارعي العاقورة، «تكلم به (الرئيس السابق) ميشال سليمان وحمله إلى (رئيس الحكومة) تمام سلام، حتى الآن لم يُدفع أي مبلغ». أما المشروع الأخضر فـ«لم يعد يُساعدنا، لأن سياسة الوزارة تقتضي أن تُرسل الأموال إلى الجنوب». ورغم ذلك يقول خطار: «أنا ما بدّي حسنة، بدي الدولة تهتم وتحط أسعار صحّ»، ويشير إلى أن «المزارع الذي لا يملك وظيفة ثانية مديون».
الاعتماد في مناطق العاقورة وتنورين وبشرّي المُرتبطة بطريق جبليّ شبه قاحل، هو على زراعة التفاح. سابقاً كان المُزارع يطمئن إلى أن الغلّة ستكفيه من أجل تأمين تعليم جامعيّ لأولاده. لكن عوامل كثيرة تبدلّت وأسهمت في ضعضعة هذا الرابط بين الإنسان والتراب. اللحمة مع الأرض الذي حافظ عليها «العاقوريون» تغيب في تنورين. جورج الشاعر يملك معملاً في جبيل ويتوجه إلى قريته في الصيف، يُبرر بأنه «لا توجد بُنى تحتية جيدة والشباب لا يبقون هنا». ينتقد المرشحين إلى الانتخابات النيابية كـ«نزار يونس وبهاء حرب الذين صرفوا الأموال على الانتخابات ورسبوا عوض إقامة مشاريع في المنطقة». قبل أن يحسم بأنّ «التفاحة مسيحية لذلك لا أحد يهتم بها».

أنا ما بدّي حسنة،
بدي الدولة تهتم وتحطّ أسعار صحّ


وهو يكشف بقوله هذا عن اعتقاد كثيرين بأن إهمال الحكومات المتعاقبة للتفاح كان أكبر من إهمالها الزراعات الأخرى، لأن الزراعات الأخرى تنمو في مناطق أخرى تجد من يطالب لها بحقوقها، أما التفاح فهو شجرة جبل لبنان وتنورين وبشري التي لا تجد من يلتفت إليها. يجلس الشاعر في الغرفة الجانبية التي استحدثها في بستان منزله الكبير. يشرح وهو «يُسبّح» عن اضطراره إلى ممارسة عمل ثانٍ لأنه «لا يبقى لنا من التفاح سوى 22 مليون ليرة كمدخول سنويّ. هناك مُتطلبات». طبيب الأسنان غابي طربيه يزيد أن «الأغلبية تُفضل الوظيفة الثانية. القسم الأكبر في تنورين لم تعد الأرض تعني له، فإما تتيبس الأرض، وإما نتكل على العمال السوريين للاهتمام بها».
المسافة بين تنورين وبشرّي لا تتعدى العشرين دقيقة. إلا أن الفوارق بينهما كثيرة. فالتاريخ المكوّن لهوية البشراويين وتماهيهم مع الأرض يُصعبان عملية مغادرة المزارعين لأرضهم: «ولدت بالأرض وبيّي شربني هيّي. من المستحيل التخليّ عنها» يقول طوني فخري. الرجل ورث 30 ألف متر مربع عن والده، «واجهنا عوائق جمّة، واليوم هناك صعوبة بالاستمرار، لكن الأرض هي كرامتنا. نتدين من أجل تخطي الحواجز». يعتدّ بنفسه وهو يُخبر كيف يؤمن قوته من التُّفاح والأرض التي يزرع فيها الخضر: «المثل يقول: فلاح مكفي سلطان مخفي». يعطي التفاح مدخولاً عالياً «ولكن لا أحد يهتم به». هو لا يُحدد المسؤوليات، ولكن يقول إن «مالكي التفاح سيضطرون إلى ترك أرضهم إذا تدهور الوضع أكثر».
في طريق العودة، يتبادر إلى الذهن فور مراجعة غالبية وجهات النظر سؤال عما سيبقى من هذه المناطق فيما لو خسرت من صمد من مزارعيها المنسيين والمتروكين في هذه الجبال يصارعون وحدهم، كأن السياسيين لا يستوعبون أن أحد شروط بقائهم في مواقعهم مرهون ببقاء الناخبين في أرضهم.