يبدو مسلياً رؤية سائحين لبنانيين في إحدى الجزر اليونانية أو لشبونة أو روما يقفان مدهوشين أمام مرطبان مربى أو قناني زيت الزيتون في متجر تذكارات، متخيلين ما سيقوله أصدقاؤهما وأقرباؤهما عنهما إن حملا إليهم هدايا كهذه. فرغم أن سعر تنكة الزيت بات يتجاوز في بعض المواسم سعر ليرة الذهب في بيروت، ما زال الذهب أكثر قيمة في نظر كثيرين من زيت الزيون، كذلك إن الصائغ أو المصرفي أعلى مرتبة اقتصادية في نظر هؤلاء وأهم من المزارع.
الدعاية الحريرية جعلت من السكن في ضواحي العاصمة، بشقة لا تتجاوز مساحتها مئة متر يقضي الشاب عمره كله بتقسيط ثمنها للمصارف دون أن يملك موقفاً للسيارات تحتها أو متنفساً صغيراً لأبنائه، أفضل بكثير من السكن بمنزل حقيقي في إحدى القرى محاطاً بمجموعة أشجار وبساتين يلهو الأطفال فيها وينمون طبيعيين. وها هم شباب كثيرون يهجرون أرزاقاً لا تقدَّر بثمن يسرون لفوزهم بوظيفة في مصرف أو مدرسة بيروتية أو شركة صغيرة. يفضل الشاب في العشرين من عمره أن يعمل عشر ساعات بين الطاولات في مطعم، متحملاً مزاجية الزبائن، على العمل ستاً أو ثماني ساعات في أرض زيتون أو تفاح أو عنب، ولو كان سيتقاضى الأجر نفسه. هناك من أقنع الشباب اللبناني بأن جلوسهم ساعتين في زحمة السيارات يحرقون رواتبهم وقوداً خلف مقود سيارة يقسطون ثمنها خمس سنوات للمصارف أكثر جاذبية للفتيات بكثير من رؤيتهم ينكشون الأرض أو يزرعونها. قالت الدعاية إن رائحة المكيفات أجمل من رائحة الأرض، والسهر فوق ناطحة سحاب مجاورة لأحد مكبات النفايات أجمل من السهر في سهل عكار وجرود جبيل وكسروان وبسكنتا تحت النجوم. وها هم يبيعون أراضي شاسعة يتجاوز عمر الزيتون أو الكرمة المزروعة فيها خمسين عاماً لشراء متجر ثياب أو مطعم صغير في ضواحي بيروت. قضت «الوظيفة» على كل شغف ومغامرة وطموح: لماذا يبحث الشاب عن مجالات تسويقية لإنتاج أهله الزراعي؟ يهاجر أو ينزح للعمل في مطعم. لماذا يستثمر الشاب في تنويع الزراعات أو تصنيع نبيذ التفاح أو تصدير الخضر؟ يفتح متجراً أو محطة وقود أو شركة صغيرة.
وفي وقت بدأت فيه إمارة دبي مثلاً دعم استثمارات كبيرة في القطاع الزراعي عبر تخصيص مساحات صحراوية هائلة لإقامة بيوت بلاستيكية واستيراد تربة زراعية وتكرير مياه البحر لاستخدامها في الري، لا أحد يتوقع أن تبادر الحكومات اللبنانية المشغولة بتوفير مداخيل إضافية لآل الحريري إلى دعم القطاع الزراعي جديّاً، لكن ثمة تفاصيل صغيرة تثير السخط. فلا أحد يتعلم من تجربة الاتحاد الأوروبي في توريط القطاع السياحي بتسويق المنتجات الزراعية، بعيد ابتداع الجهات المختصة أشكالاً جذابة من القناني ومراطبين الزيتون والمربى والعسل. كذلك إن أسواقاً للفواكه والخضر واللحوم، يعرض فيها المزارعون واللحامين والصيادين منتجاتهم طازجة، باتت تحتل مساحات كبيرة في قلب الشوارع الرئيسية في العواصم السياحية، وهو ما بدأ بعض رجال الأعمال باستنساخه على نحو مشوه هنا، سواء في مونو أو وسط بيروت أو فقرا، حيث اقتصرت المشاركة على المطاعم المملة نفسها المرتفعة الأسعار بدل فسح المجال أمام المزارعين وصنّاع المأكولات الغذائية والصيادين وغيرهم لإيجاد مدخول إضافي. وحال المنظمين هنا من حال المشرفين على المهرجانات الصيفية الكثيرة: همهم استرضاء الشركات الكبيرة نفسها بدل الالتفات إلى مجموعات جديدة يمكنها الاستفادة أيضاً من هذه الحركة الاقتصادية. وبموازاة تحويل البساتين والأحراج إلى مكبات نفايات، يبرز التجوال في أية سوبرماركت كبيرة أن غالبية الفواكه والخضر والزيتون والأجبان والشطة واللوز والصنوبر هي مستوردة أيضاً. أما الانتقال إلى الرفوف المخصصة للمشروبات الروحية، فيبين أن ضرب قطاع النبيذ اللبنانيّ الذي أقلع بنجاح منذ سنوات قد بدأ عملياً، عبر تشريع الحدود لأصناف نبيذ شبه مجانية بحكم دعم الدول التي تنتج فيها للمزارعين والصناعيين. مع العلم أن إيجاد المزارعين متنفساً لتصريف إنتاجهم عبر زجاجات النبيذ دفع كثيرين منهم إلى الاستثمار بهذا المجال، فظهرت عشرات الأسماء الجديدة في العامين الماضيين، في دليل واضح على بحث المزارع اللبناني عن آفاق جديدة واستعداده لمواكبة الموضة.
الحل؟ لا حل. ثمة قروض مصرفية مدعومة لتوريط الشباب اللبناني بشراء سيارة أو فرش منزل أو إجراء عملية جراحية، لكن ما من قروض مدعومة للمزارعين. وزارة الشؤون الاجتماعية تضحك على الرأي العام والممولين ببعض التقديمات لمربّي النحل والأبقار، أما وزارتا الصناعة والسياحة، فلا تعتبران أنفسهما معنيتين من قريب أو بعيد بالقطاع الزراعي الذي أفقده الوزير أكرم شهيب كل أمل بوزارة الزراعة. ولا مجال للتعويل هنا على المجلس النيابيّ. أما الهيئات الاقتصادية والغرف الزراعية والتجارية، فلا تقوم بدورها، فيما يبحث جميع رجال الأعمال دون استثناء عن الربح السريع وتفتقد جميع المجالس البلدية لمبادرات رؤساء وأعضاء جديين يتطلعون إلى استنهاض هذا القطاع الغنيّ الذي يبقي المواطنين في أرضهم. وعليه، الأمر منوط بمبادرات شخصية: بإجراء كل شاب مقارنة جدية بين الحياة التي يمكن أن يعيشها في قريته، والحياة التي يعيشها في بيروت، ومردود وظيفته التي يتبخر أجرها مطلع كل شهر قبيل عودته إلى شقته ومردود الأرض التي يزرعها فواكه أو خضراً ويسهر على ابتداع وسائل ذكية لتصريف إنتاجها.