أن لا تكون سياسياً، لا يعفيك هذا من ضرورة أن تمتلك وعياً سياسياً يخرجك من منطوق الهباء والعشوائية. فنظرية السلطة في لبنان طائفية بامتياز منذ عهد القائمقامية عام 1842، ومن الصعب تصور إمكانية لمقاربة السياسة في السياق اللبناني دون الخوض في التوازنات الطائفية.
ثم إنه ليس هناك مكان رحب للملفات المعيشية خارج المحاصصة في البازارت السياسية ولم تخرج هذه الملفات يوماً عن أن تكون ثقلاً في إحدى كفتي الميزان المسكون بهواجس الطوائف المرضية، ثقلاً ممنوع عليه للآن أن يرجّح طرفاً ويقصي آخر. في ضوء ما آلت إليه التحركات الشعبية الأخيرة في بيروت، بدا واضحاً أن ما بدأ مطلبياً انتهى إلى تحرك لا يلوي على أفق محدد بعدما اختلطت المطالب بين الممكن والحالم. وفي لحظة ما، غاب عن بال المنظمين ذلك الفرق البسيط، ولكن المهم، بين برنامج منظمة أهلية وأجندة حزب سياسي. معلوم أن الميل إلى الطروحات المبدئية والبعد عن تفاصيل اللحظة السياسية الآنية يجب أن يتخلل عادة مقاربات الجمعيات الأهلية. أن تكون هوية المطلبيين لبنانية، فهذا لا بدّ أن يعني شيئاً ما في نهاية المطاف، حسّاً تاريخياً للحراك المطلبي على سبيل المثال. وللمناسبة، فإن نتائج التحركات الاحتجاجية اللبنانية عادة ما تؤول إلى تسويات لا تخرج عن نطاق التوازنات الطائفية، ابتداءً من ثورة الفلاحين على الإقطاع التي تقع في قلب قيام نظام المتصرفية عام 1860، مروراً بمراحل عدة من التحركات الاحتجاجية والاعتراضية مثل الإضراب الأطول في تاريخ الحركة المطلبية اللبنانية الذي نفذه عمال معامل الأصواف الوطنية عام 1945، إلى سائر الاحتجاجات والتظاهرات التي ارتدت بالمجمل لبوساً يسارياً خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وحتى عندما كان هناك نوع من الحياء السياسي بخصوص هوية النظام الطائفي، كانت التسويات تنزع صوب التحاصص، والسؤال هنا: لماذا يصرّ القادة العملانيون للاحتجاجات الراهنة، بسذاجة في بعض الأحيان، على عدم الخوض في السياسة في ظل سلطة تجاهر بفجاجة بهويتها الطائفية وتمعن في استباحتها المال العام بحجة تساوي الحصص الطائفية. بمعنى آخر، الفساد عند أرباب الطوائف يجد مبرراته دائماً في الإشارة إلى الفساد في الطوائف الأخرى ولا يتم نفيه، أي حقيقة الفساد، بشكل جدي.

المجهول السياسي مغامرة كارثية لا يجب تبنّيها

كل شيء في لبنان يتمحور حول الطائفة التي تؤسس السلطة، إذاً لا يمكن بسهولة تصور إصلاح بمعزل عن خطاب يقع في قلب السياسة. إنها جدلية السلطة والطائفة التي لا تلد إلا الفساد والمحسوبيات ولا توفر إمكانية الخروج من عبثيتها بسبب الإدغام المحكم الحاصل بين مكوناتها. لهذا الحراك حرية نظرية في أن يتبنى مطالب معيشية حصراً دون أن يوجه أصابع الاتهام ويطالب بالمحاسبة، ولكن عليه حينها أن يكتفي ببؤرة اهتمام مساوية لتلك التي تحظى بها جمعيات منع الصيد والرفق بالحيوان، ولا يحق له تالياً أن يدعو إلى التظاهر الاحتجاجي. وفي اللحظة التي يقرر فيها طرف أن يتظاهر ضد سلطة قائمة، يجب أن يعني ذلك حكماً أن لديه تصوراً مغايراً لطريقة إدارة ملف ما. وسيعني ذلك تالياً انخراطاً في السياسة بوصفها فضاء للتأثير المتبادل بين الفاعلين. عندها، لا مناص من أن يتخطى الحراك ذلك نحو مطلب محاسبة الفاسدين، وهنا بالتحديد تفشل هذه الجمعيات في تحديد المسؤوليات وتلجأ عوضاً عن ذلك إلى رميها على الجميع جزافاً، حتى دون لحظ نسب متفاوتة في تحمل المسؤولية. يعني ذلك أن لا اسمنت مطلبياً صلباً كفاية ليحتمل أدنى اضطراب ناجم عن شعارات قد تحمّل بخبث مضامين طائفية. (علماً بأن الاستحقاق الأخير ليس بالصعوبة التي يبدو عليها لأن الفساد في لبنان عابر للطوائف). إذاً، الخطاب المطلبي اللبناني الحالي غير ناجز وهو مجرد تنويع على مزاج الشكوى والتململ الشعبي العام الذي تصادفه لدى سائقي التاكسي والباعة على سبيل المثال، وهو خطاب تعتوره دائماً نقيصة النضوج والنزاهة والمبادرة. لا يمكن لمجموعات المجتمع المدني والأهلي الخروج على اللبنانيين بمطالب تغييرية جذرية ما دامت هي نفسها لا تمتلك أدنى تصور عن بديل قابل للحياة. ليس المطلوب بالتأكيد أن تتصدى هذه الجمعيات للراهن ببرنامج عمل متكامل ومحكم التفاصيل لأن هذا يدخل في مهمة الأحزاب السياسية البحتة، ولكن بمطلق الأحوال يجب أن تشارك هذه الجمعيات في رفع البطاقات الحمراء بوجه الفاسدين، ولا مانع من أن ترسم حدوداً للمعقول السياسي وللأشياء التي لا يمكن السكوت عنها. بالمحصلة، لأن الفاسدين هم سياسيون بالدرجة الأولى لا يمكن أن يجتنب محاربو الفساد السياسة على الإطلاق. وعلى طريقة منظمات الشفافية العالمية، يجب أن تفعّل بطاقات أداء (scorecards) لمراقبة السياسات الداخلية، على أن تحرص هذه الجمعيات على أن تكون محصنة من رهاب الخوف من الاتهام بالانحياز الطائفي عندما تشهر بطاقاتها الحمراء والخضراء على السواء. بعيداً عن خرافة فارس سعيد التي تؤكد أن الربيع العربي هو ترددات لـ«ثورة الأرز»، لا يجب أن يغيب عن بال المتحمسين الخلاصات العائمة لما سمي الربيع العربي. أهم هذه الخلاصات تؤكد أن المجهول السياسي مغامرة كارثية لا يجب تبنيها أو الدفع إليها دون حكمة التروي. ثم إن الواقع السياسي المحلي في لبنان ليس قاحلاً، لنفتح أعيننا قليلاً على جهات لم تنخرط في لعبة الفساد ولنمتلك شجاعة الإشارة إلى ذلك مع محافظتنا على حقنا بالاختلاف السياسي مع هذه الجهات. سيكون ذلك حاسماً لجهة التأكيد لكل القوى السياسية في لبنان أن محاربة الفساد ورقة شعبية رابحة لأنها كفيلة بإضفاء بعد وطني للقوى السياسية الطائفية موضوعياً.
يبقى سؤال السفارات. بداية لا يجب أن يكون مطروحاً للنقاش حقيقة أن بائساً أحرق نفسه طوعاً في تونس، حين بلغ به اليأس حد النار. لنقفز سريعاً وبرشاقة فوق صفاقة القول إن البوعزيزي هو صنيعة استخبارية من نوع ما. تالياً، حقيقة أن تستغل جهات متعددة المشارب الحراك القائم وتجيّره لتحقيق أجندتها فهذا طبيعي، بل ويقع في قلب السياسة بما هي محاولة تأثير في ممكنات الواقع لتحقيق المكاسب. تصلح هذه المقاربة للحكم على الحدث المطلبي اللبناني، فالوجع حقيقي جداً والفساد أيضاً، وفقط الأبله هو من انتظر أزمة النفايات ليخلص إلى حقيقة مركّب السلطة الفاسد. وللأحزاب والقوى غير المنخرطة في أتون الفساد والمتخوفة من مؤامرة ما، لماذا يُترك تبني هذا الوجع، افتراضاً، للسفارات؟
* كاتب لبناني