تزداد الصراعات السياسية في العراق استعاراً، يوماً بعد يوم، على وقع انتفاضة مطلبية ماضية قدماً، بات محسوماً لدى المعنيين أنها لن تهدأ قبل إسقاط النظام الحاكم في بغداد. الأطراف السياسية كل يغني على ليلاه، وهي تستغل فوضى الشارع لتصفية الحسابات في ما بينها، أو لتعويم نفسها شعبياً.
كل ذلك في ظل حديث في الصالونات العراقية عن غرفة عمليات أمنية في الرياض وأخرى إعلامية في عمّان، تسعيان إلى الركوب على وجع العراقيين ويأسهم من نظام طائفي فاسد نهب البلاد والعباد، لفرض تغييرات في موازين القوى الداخلية تعدّل في الاصطفاف الجيواستراتيجي لبلاد الرافدين. حديث مرفق بتسريبات عن نيّة المتظاهرين رفع شعار «ارحل» في وجه رئيس الوزراء، حيدر العبادي، خلال أيام، وعن اتجاه فريق سياسي، يتصدره نائب رئيس الجمهورية السابق، إياد علاوي، للضغط باتجاه انتخابات برلمانية مبكرة.
«التيار الصدري» ومعه «المجلس الأعلى» يريدان الانتقام من رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، على سنوات من الإقصاء والتهميش، فيما «منظمة بدر»، التي خسرت اثنين من وزرائها الأربعة في الحكومة الحالية، تجد في ما يحصل فرصة لتسلّم السلطة بعد الإنجازات التي حققها زعيمها، هادي العامري، في قيادة الحشد الشعبي الذي تسعى بعض فصائله إلى تعويم نفسها سياسياً، هي التي قدمت تضحيات جمة من خلف الستار منذ أن أطلقت مقاومتها للاحتلال الأميركي قبل أكثر من عقد. فصائل كلها تبدو خاسرة من إصلاحات حيدر العبادي، الذي ترى أنه يستفرد بالقرارات دون الرجوع إليها، حتى في إطار «التحالف الوطني» الذي يجمع الشركاء في الحكم، فضلاً عن أنها تعتبر الخطوات التي اتخذها شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع. رئيس وزراء لا يرى أمامه سوى المالكي، الذي بات يشكل هاجسه الأول، على ما تفيد أوساط العبادي الذي يعتقد أن سلفه يريد إطاحته.

تخويف العبادي
من المالكي يجعل الأول عرضة للابتزاز من الداخل والخارج

حالٌ دفع القوى الإقليمية المعنية في المنطقة إلى بذل الجهود من أجل ترتيب البيت الداخلي العراقي، عبر سلسلة اتصالات بالأطراف المختلفة مرفقة بجلسات تجمع المتخاصمين، على أمل النجاح في تشكيل جبهة تجنب البلاد الانزلاق إلى ما لا تحمد عقباه، في ظل وضع يبدو واضحاً خلاله استحالة تحقيق أي انجاز ملموس يحاكي معاناة العراقيين: لا صناعة ولا زراعة ولا سياحة، واقتصاد يعتمد على النفط بنسبة 96 في المئة من موازنته التي قدرت سعر البرميل النفط بـ56 دولاراً، بينما يباع اليوم بأقل من أربعين، وذلك في مقابل التزامات ليس أقلها 24 ملياراً سنوياً للرواتب فقط؛ فضلاً عن موازنة تشغيلية ومصاريف للمحافظات بعشرات المليارات، عدا المجهود الحربي الذي يستهلك أرقاماً ضخمة. بلغ الوضع سوءاً حداً تفيد فيه المعلومات بأن رواتب موظفي الدولة كانت مهددة بعدم الإيفاء هذا الشهر، مشيرة إلى أن المعطيات المتوافرة اليوم تنبئ بأن لا رواتب في تشرين الأول.
لقاءات كثيرة جرت خلال الفترة الماضية لرأب الصدع بين «الأعدقاء»، بعضها جرى داخل حزب «الدعوة» لردم الهوة بين قياداته. تم جمع العبادي بالمالكي، مرات عديدة خلال اجتماعات لأكثر من إطار قيادي في الحزب. مصادر إقليمية تؤكد أنه «يجري تخويف العبادي من المالكي بشكل يجعل الأول عرضة للابتزاز من الداخل والخارج».
لعلّ في ما جرى خلال اجتماع «التحالف الوطني» الخميس الماضي خير مؤشر على المناكفات داخل الصف الواحد. عقد الاجتماع على مستوى القيادات. المالكي والعبادي وعمار الحكيم وممثل عن مقتدى الصدر. صدر البيان الرسمي داعماً للعبادي، ولإصلاحاته. أما داخل الاجتماع، فكان الوضع متشنجاً ومتوتراً. رفض من أطراف «التحالف» للإصلاحات بحجج مختلفة. تارة بكونها لم تعتمد الآليات الدستورية بشكل يجعلها عرضة للإجهاض، من مثل إلغاء مناصب نائب رئيس الجمهورية الذي رفع كل من أياد علاوي وأسامة النجيفي طعوناً قضائية تحاجج بعدم دستوريتها لكونها صدرت عن سلطة أدنى. وطوراً بحجة استفراد العبادي بالقرارت، معتمداً على دعم المرجعية التي وفرت له الغطاء اللازم. مصادر رفيعة المستوى في داخل «التحالف» فضّلت أن تضع الاجتماع في إطار «ضبط الحركة الإصلاحية للعبادي وجعلها في أيدي التحالف».
القضية في حسابات الأطراف المعنية تجاوزت بكثير المناكفات الداخلية وتتعامل مع الملف بما يستحق من وعي للتدخلات الإقليمية المرافقة وأهدافها. كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية، على سبيل المثال، التي جعلت طهران تستقبل نوري المالكي (الذي وصلها مجرداً من منصبه كنائب رئيس للجمهورية) بحفاوة وكأنه رئيس وزراء في منصبه. بداية، جاءت كلمته، في «مؤتمر أهل البيت» الذي كان مدعواً له، الثانية مباشرة بعد كلمة الرئيس حسن روحاني. كما استقبله مرشد الثورة، السيد علي خامنئي، ومختلف المرجعيات والقيادات الإيرانية، ونظمت له لقاءات إعلامية وفي مراكز الدراسات والأبحاث. مصادر إيرانية مطلعة تعلق قائلة إن «إيران وفيّة لحلفائها، ولا تنسى وقوف المالكي إلى جانب ثوابتها الاستراتيجية». تضيف: «أكرمَته كرئيس وزراء. بات واضحاً أن الحملات ضده تتشخصن يوماً بعد يوم. يُستهدف باعتباره رمزاً للنفوذ الإيراني في الداخل العراقي. من هنا يعتبر استقباله بهذه الطريقة رسالة للغرب».
تتحدث الأطراف نفسها عن «جيوش إلكترونية داخلية تتحارب لتصفية الحسابات في ما بينها»، في وقت تخوض فيه «أكثر من 150 ألف منظمة غير حكومية (تقول الحكومة العراقية إن عددها الرسمي في عام 2008 كان 104 آلاف منظمة) مدربة وممولة أميركياً ومدعومة من واشنطن ولندن وأنقرة والرياض وعمان، معركة إسقاط النظام في بغداد وتقليم أظفار إيران في العراق».
كمثال على تصفية الحسابات، يجري الحديث عن «تقرير الموصل» الذي أحيل أخيراً إلى القضاء لبتّه. تقول الرواية، التي يتداولها القريبون من نوري المالكي، إن رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، حاكم الزاملي، تعرض لضغوط من قيادة «التيار الصدري» (الذي ينتمي إليه) لإدراج اسم رئيس الحكومة السابق في عداد المتهمين بالتسبب بسقوط الموصل في يد «داعش»، مستغلة اضطراب الشارع، ما جعل «التقرير يخرج مسيساً بهدف الانتقام من المالكي». وتضيف أن «رئيس البرلمان لم يسمح بقراءة بيان اللجنة داخل مجلس النواب، وإنما حوّل التقرير مباشرة إلى القضاء لبتّه». في المقابل، تقول رواية أخرى، إن صفقة تمت لإجهاض المحاولة الصدرية، تقضي بإحالة التقرير إلى القضاء «الذي سيضعه في الأدراج على أن يقرر في الوقت المناسب حفظه لعدم كفاية الأدلة». وبحسب الرواية نفسها، هذا ما حرض الأطراف المناوئة للمالكي، ومعهم المرجعية على توجيه السهام إلى السلطة القضائية والمطالبة بمحاسبة رئيس مجلس القضاء الأعلى، مدحت المحمود، الذي كشف نيته ترك منصب يشغله منذ 12 عاماً.