بغداد | لا تزال النخب العراقية عاجزة عن حسم هوية النزاع الدائر حول مستوى الحريات التي يجب اعتمادها والقدرة على تطبيقها، في وقت ينقسم المجتمع بين تأويلات متناقضة للممارسات الاجتماعية والثقافية وحول السماح بالتظاهر واستخدام القوة بحق المتظاهرين وقمعهم في آن.
ويبدو أن المشهد قد أفرز انقساماً، كما هي الحال في كل مرة، بين تيارات دينية وأخرى ليبرالية. ولأن الوضع في البلاد جعل المواجهة غير متكافئة بين الطرفين، فليس من المرجح أن يتمكن العراقيون قريباً من التوصل إلى صيغة مشتركة لتعريف شكل وهوية الحريات العامة.
وتصاعد الجدل، في الأشهر الماضية، بشأن مستقبل الحريات مع عودة الخلافات بين التيارات الدينية والليبرالية في ما يتعلق برؤية كل منها لتفسير مفهوم الحرية. وجاء الجدل بعد أيام قليلة من اقتحام الأجهزة الأمنية لمرافق مختلفة، وإغلاقها واعتقال من فيها قبل أن تسارع وزارة الداخلية إلى تدارك الأمر. تزامناً، شنّ ناشطون عراقيون عبر مواقع التواصل الاجتماعي حملات نقد لاذعة ضد فعاليات اجتماعية وترفيهية في بغداد (منها مثلاً حفلات «بغداد بارتي» ومهرجان الألوان).
وأتى ذلك بعدما شهدت السنوات من ٢٠٠٩ وحتى العام ٢٠١٤ موجة أعمال ذات طابع عنفي أو قمعي، وصفتها تيارات معارضة بأنها «اعتداءات» متعمدة على الحريات، وصلت إلى حد القلق من تمدد «الحكم الديني».
في المقابل، يبدي باحثون عراقيون قلقهم من فكرة أن الصراع الدائر بشأن الحريات لا يعني أن الطرف المناهض للتيار الديني يريد تطبيق الحريات بصورة «ديموقراطية».
ويقول سليم سوزه، وهو باحث عراقي مقيم في واشنطن، إن «إشكالية الحريّة تكمن في شكلها القانوني والسياسي وليس في فحواها الفلسفي، وما زلنا نرى قضية الحريّة على أنها مشكلة سياسية أو قانونية يُساء إستخدامها من قبل السلطة وليس كمفهوم». وعن الانقسام الحاد حول بعض الظواهر والسجال حولها (وخاصة موضوع حفلات بغداد بارتي ومهرجان الألوان)، يشير سوزه إلى أن «السلطة تستطيع تشريع قانون يمنع هذه الظواهر وحينها تضع الجميع أمام الأمر الواقع وتنهي السجال، رغم ان الحديث مع السلطة في هذا الشأن أمر غير مجد لأنها تمارس الحرية ممارسة إيديولوجية تخدم مصالحها ولا تؤمن بها موضوعاً معرفياً».
وعن فرص خلق أجواء حقيقية لممارسة الحريات في العراق، يذكر سوزه بأن «مهمة توعية المجتمع تجاه قضية الحرية تقع على عاتق المثقف المتصدّي، والبداية السليمة تكون في توعية المجتمع على جوهر مفهوم الحرية من خلال طرح أسئلةٍ من قبيل: ما الحريّة؟ كيف يمكن ضمانها للجميع؟». ويتابع: «بدلاً من النزاع القانوني حول أحقية الرافضين أو المؤيدين لهذه الظواهر ومدى دعم أو رفض الدستور لها، فإن هنالك سجالا معرفيا مهما علينا الخوض فيه، كقولنا إن كانت السلطة الإسلامية الحالية تمنع الملاهي والبارات، فمَن يضمن ألّا تمنع السلطة العلمانية المستقبلية المساجد والحسينيات؟». ويعتبر أنه «لا فرصة للتوافق على هكذا مفهوم للحريّة إلّا بالإلتزام بالمبدأ الديمقراطي».
لكن دعوة الباحث العراقي إلى الالتزام بمبدأ الديموقراطية، تحتاج إلى ضمانات قانونية تجعل الأفكار والأنشطة المختلفة للجماعات وللفئات الاجتماعية والثقافية مصانة للجميع.
ويعتقد متابعون للشأن العراقي أن الحريات موجودة كمفهوم عام في البلاد، كما أن الدستور يقدم ضمانات لصيانتها وضمانها، بيد أنه من الصعب تحويلها إلى ممارسات في الواقع لأن المواد الدستورية تحتاج إلى قوانين تترجمها، وهو ما تعذر تحقيقه في العراق خلال السنوات الماضية.
ويبدو أن غياب الغطاء القانوني وضع مواد الحريات في الدستور عرضة للصراع السياسي بسبب تفسيرها المتعدد، وشيوع التأويلات التي يصدرها كل طرف في الصراع بناء على وجهة نظره وتوجهه السياسي.
ويقول عميد كلية العلوم السياسية في «جامعة النهرين»، عامر حسن، إن الحريات ترتبط بشكل أساس بمسألة الحقوق التي تنقسم بدورها بين ثلاثة أبواب. ويشرح أنّ «الباب الأول هو ضمان هذه الحقوق والباب الثاني تنظيمها والباب الثالث توفير البيئة الملائمة لممارستها، ونعني بذلك التمكين».
وتصنّف الحريات بصفة عامة بين حقوق وحريات فردية (وهي امتيازات للأفراد يمتنع على السلطة التعرض لها)، وحقوق وحريات سياسية جوهرها وضع السلطة في أيدي الشعب.
وفي الأثناء، يصعب الحديث عن الحريات وتحولها إلى ممارسات مضمونة قانونياً في ظل أوضاع متدهورة على مستوى الأمن والاقتصاد. فحتى الآن، ما زال العراق دولة خطرة وغير مستقرة، وتعاني من عقبات سياسية جادة وتدخلات الدول المجاورة، وتعاني كذلك من سوء الإدارة العامة.
كما أن السلطات في العراق غالباً ما تترك الصراع بين الليبراليين والتيارات المتشددة من دون التدخل كطرف ضابط للأزمات بينهما، بسبب التداخل السياسي بين مصالح تلك القوى وأطراف السلطة.

يصعب الحديث عن الحريات في ظل أوضاع متدهورة على مستوى الأمن والاقتصاد

في السياق، يؤكد الشيخ غيث التميمي أن «إحدى أعقد مشاكل الدستور العراقي أنه كتب بطريقة توافقية، الأمر الذي افقده قدرته على التعبير عن فلسفة الدولة وبالتالي نظامها السياسي». ويضيف أن هذه المشكلة تمثّل إحدى المفارقات، إذ، مثلاً، لا معنى أن يكون للدولة دين معين لأن الدولة شخصية معنوية مثل أي شركة أو منظمة، بحسب تعبيره. ويرى التميمي أن هذا الواقع سيتسبب بأزمات كبيرة في مراحل التحوّل نحو الديموقراطية في العراق.
وحول ما يتردد عن دور التيارات الليبرالية والعلمانية في المجتمع العراقي، يوضح التميمي أن «مثل هذه التيارات موجودة أصلا، لكنها غير عاملة في مجتمعاتنا ولا تملك اي فاعلية ولو وجدت فإن لها فرصة كبيرة، خصوصا ان التشريعات والقوانين في العراق تساعد على حياة ليبرالية مدنية». ويتابع بالقول إنه يوجد جمهور ليس بالقليل من العراقيين الذين يعتقدون بأنّ القوى الدينية «فشلت» في تحقيق أدنى مستويات العدالة والرفاهية. ويمضي إلى القول إن «البعض يعمد إلى قمع الحريات عبر ممارسات عنيفة تستند لاجتهادات فقهية، وفتاوى دينية قاصرة لا تتناسب وطبيعة التحولات التي تعيشها المجتمعات الحديثة».
ومرّ الصراع «الأيديولوجي» حول الحريات العامة بمراحل مختلفة، وصلت ذروتها مع ظهور فعاليات مدنية دافعت عن حرية التعبير، كما في تظاهرات عام ٢٠١١ التي طالبت بمحاربة الفساد، وتظاهرات عارضت مساعي تشريع القانون الجعفري.
وتعاملت السلطات بحساسية مفرطة مع حركات الاحتجاج، واضطرت إما لقمعها باستخدام القوة، أو التشهير، عبر وسائل الإعلام، بالمحتجين. وفتحت التظاهرات الحالية في بغداد والمحافظات مقاربات مختلفة عن مفهوم «حرية التعبير». وفي الآونة الأخيرة، اقتحم شبان مبنى الإدارة المحلية في الفاو (جنوب) وأخرجوا قائم مقام البلدة بالقوة، ما يؤشر على وجود احتمالات مغايرة لتطور أساليب التظاهر، وذهابها نحو كسر تابوهات قوانين مشرعة منذ عشر سنوات، في إطار رفض شعبي متصاعد لإرث النخبة السياسية القائمة.