لا تزال تغريد دارغوث (1979) تعمل على موضوعات السلاح النووي وأنظمة الدفاع العسكرية وسباق التسلح، ومعرضها «Vision Machines» الذي افتُتح أول من أمس في غاليري «أجيال» يبدو كجزءٍ جديد من سلسلة ضمن مشروع واحد تقريباً. الرسامة اللبنانية التي أدارت ظهرها مبكراً لفنون اللوحة التقليدية، وانغمست مثل أغلب أبناء جيلها في ممارسات الفن المعاصر، اشتغلت في البداية على موضوع الدمى والمانوكان، وعلى الثقافة الاجتماعية لعمليات التجميل، وعلى حضور الخادمات في المجتمع اللبناني، حيث كان ممكناً للرسم أن يتحول إلى مادة سياسية وسوسيولوجية تلامس تفاصيل معينة من الحياة المعاصرة، وتفضح الآليات الذهنية لشرائح محددة من البشر، وحيث تعمل المدونة اللونية للرسامة في خدمة هذه الموضوعات أكثر من عملها في خدمة الرسم نفسه. هذه الممارسة، التي يمكن تسميتها المفاهيمية، جعلت شغل تغريد دارغوث معنياً بمشاريع لها علاقة مباشرة بالحياة المعاصرة، وهو ما قادها إلى العمل على موضوع التسلح بوصفه العنوان الأساسي لمشهديات الحرب والدمار والإرهاب التي تدور في أنحاء مختلفة من العالم.
وكان معرضها «نشيد الموت» (2011) عن البرنامج النووي البريطاني المعروف باسم «قوس قزح»، تظهيراً للمفارقة الساخرة بين فظائع الموت التي يمكن أن يتسبب بها هذا السلاح وبين الأسماء الجميلة والرومانتيكية التي أطلقت على القنابل النوويه فيه، وجاء معرضها «بروفات» كاستئناف للموضوع ذاته من خلال ربط القنابل بالمشهديات المدمرة التي تنتج منها، فعرضت لوحات تمثل تجارب التفجيرات النووية، وبدت أشكال الفُطر النووي أشبه بتجريدات شكلانية موازية، بينما امتلأت لوحات أخرى بالجماجم، واتسع بعضها الآخر لمساحات شاغرة لفكرة الخلاء النووي الخالي من الحياة البشرية. فكرة التسلح حملت تأويلات عديدة للهيمنة السياسية والعسكرية للدول العظمى، وانقسام العالم إلى شمال وجنوب، والعنف والحروب والتدخلات الخارجية في مصائر الشعوب.
وهذه العناوين الكبرى انفتحت على عناوين أصغر وتفاصيل أكثر نجدها حاضرة في معرضها الجديد الموزع على ثلاثة عناوين داخلية: «لا مكان للاختباء» و«ستراني بشكل أفضل الآن»، و«آلات الرؤية».

كاميرات المراقبة هي ترجمة لفكرة الهيمنة والرقابة
فكرة الهيمنة العسكرية تتخفف قليلاً من حمّى التسلح وبرامج الدفاع، وتتجزأ إلى أفكار وشذرات ناتجة من الفكرة ذاتها، فكاميرات المراقبة التي نراها في بعض اللوحات هي ترجمة أخرى لفكرة الهيمنة والرقابة المشددة، والتوصيف نفسه ينطبق على لوحات تظهر فيها طائرات من دون طيار يمكنها أن تلتقط صوراً حية ومباشرة لما يجري على الأرض. هناك نوع من المسح الخارجي الذي يتدخل في خصوصيات الجغرافيا والمشهد المديني والخصوصيات الفردية أيضاً. إنها رواية جورج أورويل «1984»، ولكن بطبعة شديدة المعاصرة. ما تطرحه تغريد دارغوث في معرضها يتجاوز الرسم إلى النقاش السياسي والأخلاقي لفكرة الوجود البشري المعرّض للتصنيف وتحليل البيانات وفهم أنماط السلوك، وما ينتج من ذلك من انتهاكات لشبكة الأمان الفردي والمجتمعي.
في أعمال من هذا النوع، غالباً ما تفتح اللوحة أو العمل الفني سجالاً أوسع من الرسم. جزء من طموحات الفن المعاصر يكمن في تحاشي جماليات معينة وتقليدية لصالح نبرة احتجاجية وانتقادية تضع الفن نفسه في مواجهة مع السياسة والعنف والحرب والقمع. تصبح اللوحة نوعاً من التجهيز الأنثروبولوجي، وتتزايد الانطباعات الفوتوغرافية للأشكال المرسومة (قنابل، طائرات، كاميرات…) على حساب مهارات الرسم والتلوين. كأن موضوع المعرض «يُهيمن» على تقنيات الرسم، ويمارس نوعاً من «التضييق» على مهارات الرسامة نفسها. هناك انطباعات تجريدية وتعبيرية تنبعث من عدد من اللوحات طبعاً، ولكن ذلك يظل شحيحاً مقارنة بالحضور الطاغي لأشكال الآلات والقنابل مثلاً التي تتطلب نوعاً من التطابق الفوتوغرافي والواقعي مع الأصل. وهذا يطرح السؤال مجدداً عن تحول الرسم إلى مسألة إجرائية أو تنفيذية لأفكار مسبقة وجاهزة، وعن الانطباعات التي يمكن أن تثيرها هذه اللوحات تجاه الجمهور العريض. سؤال (قد) يبدو متهافتاً في ظل التطورات المتسارعة للفنون المعاصرة، وفي ظل الأسئلة الطليعية التي تطرحها التجارب الجديدة في المحترف اللبناني الذي بات معرّضاً منذ أكثر من عقدين لتيارات وممارسات سوق الفن المعولمة التي باتت النجاة من تأثيراتها القوية مسألة مستحيلة، إلى جانب أن أغلب التجارب اللبنانية الشابة تنخرط طواعيةً في ممارسات هذه السوق، ولا تقاومها أصلاً.

* «آلات الرؤية: تغريد دارغوث». يستمر حتى 26 أيلول (سبتمبر) الجاري. «غاليري أجيال»، الحمرا. للاستعلام: 01345213