هناك أكثر من صلة قربى بين الكاتبة الأميركية المكسيكية جنيفر كليمنت (1960)، ومواطنها المكسيكي خوان رولفو (1917- 1986)، صاحب الرواية اليتيمة «بيدرو بارامو». هنا أيضاً، سوف يحضر الريف المكسيكي الحزين والبائس والعجائبي إلى أذهاننا، ولكن بمرآة أخرى أكثر قسوة. ربما شاعرية العنف، هي ما يجمع بين الاثنين على قماشة سردية واحدة، ذلك أن جنيفر كليمنت في روايتها «صلاة لأجل المفقودات» الصادرة عام 2014 (دار الجمل ـــ ترجمة عبير مرعي) تميط اللثام عن ريف مهمل تتناهبه عصابات المخدرات، وتواطؤ السلطة من جهة، والعوز والعزلة والفقدان من جهةٍ ثانية.
وإذا كان خوان رولفو قد ذهب بعيداً في ابتكار واقعيته السحرية المفردة، فإن صاحبة «قصة حقيقية قائمة على أكاذيب» تقف على الضفة المضادة في سرد أميركا اللاتينية، أو ما يمكن أن نسميه سرد «ما بعد الواقعية السحرية»، إذ تمزج ما بين الأساطير المحليّة، وتأثيرات الميديا، والنزعة التقنية الطارئة على الحياة اليومية للبشر المهملين، وكأن ما ترويه جنيفر كليمنت أغنية طويلة عن الوجع والشجن والاحتضار، فهي تنهي كل فصل من فصول الرواية بضربة شعرية مباغتة، تتوافق مع الفكرة التي أوردتها على لسان إحدى النساء المحزونات» كل ما هو ممنوع عليك معرفته أو التحدث عنه يتحوّل في النهاية إلى أغنية». وستتكشف نبرة شعرية صريحة في طبقات السرد، آتية من خبرة سابقة في هذا الحقل، بالإضافة إلى مزج الطقوس القديمة بتوابل عصرية. في ذلك الإقليم المهمل والمنسي والملتهب إذاً، تتوزع البيوت الفقيرة المكان. نساء وحيدات يعشن خوفاً مزمناً، بغياب الرجال الذين غادروا إلى مكسيكو للعمل، أو عبروا الحدود إلى الحلم الأميركي. وكان على النساء أن يحفرن أنفاقاً سريّة لإخفاء الفتيات الصغيرات، خشية اختطافهن على يد عصابات المخدرات خلال غزواتهم البربرية المباغتة على قرى الإقليم. ما ترويه الشابة «ليديدي» هو استعادة لمصائر فتيات مخطوفات، وأخريات هجرن المكان إلى مدن مجهولة، وسوف تحضر أولاً، حكاية «باولا» التي كانت أجمل من جنيفر لوبيز، وفقاً لصورتها في أذهان الأخريات، وكذلك لأنها الوحيدة التي تمكّنت من الهرب بعد اختطافها واغتصابها على يد أحد ملوك الماريجوانا والخشخاش.

روايتها «صلاة لأجل المفقودات» صدرت أخيراً بالعربية عن «دار الجمل»
تشويه الفتيات وتشبههن بالصبية، لم يحمِ حياتهن من البؤس، مثلما فشلت نبوءة العرّافة في رسم مستقبل أم ليديدي التي كانت تعمل خادمة في بيوت الأغنياء، إذ تتالت المصائب على رأسها، منذ أن هاجر زوجها إلى أميركا، واكتشافها زواجه من امرأة أخرى هناك، بالإضافة إلى خيانته لها مع جارتها، لتكتشف أن «ماريا شفة الأرنب» ثمرة لهذه العلاقة الآثمة، لكن ليديدي ستتعلق بشقيقتها أكثر، وستنقذ حياتها من رصاصة أطلقتها أمها نحو ذراع الشابة كنوع من الانتقام من زوجها، نظراً للتشابه التام بينهما في الملامح. «مايك» الشاب الوحيد في القرية وشقيق ماريا، ينخرط هو الآخر بتجارة المخدرات، وهو من سيتدبّر عملاً لليديدي لدى عائلة غنية في المدينة. في الطريق إلى المكان الجديد، يتوقّف أمام كوخ منعزل لبضع دقائق، ثم يكمل طريقه ويودع الفتاة أمام القصر. لن تجد أحداً غير الخادمة العجوز التي ستخبرها بأن العائلة في إجازة وستعود خلال أيام. تتعلّق بالبستاني وتقيم علاقة معه، لكن هذه الهناءة الطارئة ستنتهي، حين تقبض الشرطة عليها بوصفها شريكة لمايك في جريمة قتل، وستكتشف أن مايك قتل أحد تجّار المخدرات وابنته عندما توقّف أمام الكوخ، وأغلق عليها زجاج السيارة. في السجن، ستروي «أورورا» حكاية باولا كاملة، إذ كانت إحدى الحريم المخطوفات لدى ملك المخدرات، وأن الطفلة التي قتلها مايك هي ابنة باولا. عدا هذا التشابك بين الحكايات، تبرع جنيفر كليمنت في فضح الصورة الأخرى للمكسيك. صورة الفساد وتجارة الجنس والمخدرات، والأوضاع البائسة للريف، وسطوة العولمة في إنهاك الروح المحليّة للمكان. في السجن ستكتشف باولا عالماً آخر، ونماذج نسوية مقهورة. ضحايا عنف، وقصص حب محبطة، وحالات انتقام، وصلوات لم تصل إلى الرّب، فكل ما تبحث عنه أو تفتقده تحطّم دفعة واحدة، في رحلة قاسية لا تشبه ما كانت تعرضه قناة «ناشيونال غرافيك» التي كانت التسلية الوحيدة لأمها في القرية المنكوبة، وستكتشف أن محنتها تشبه محنة أخريات. تروي «لونا» شريكة باولا في السجن بأنها قتلت والدها انتقاماً لقتله أمها. الأب الذي لم يعانقها مرّة واحدة في حياته «لكن بينما كانت تقتله تمسّك بها. قالت إنه كان عليها قتله لتحصل على عناق منه»، فيما تعترف «أورورا» بأنها خلطت سم الفئران بالقهوة وأطاحت عصابة من ستة رجال، كانوا خطفوها وانتهكوا جسدها، لتنتهي في زنزانة تفوح منها رائحة مبيد الحشرات. سنتذكر طويلاً، تلك القرية العزلاء، والساحة التي كانت المكان الوحيد لالتقاط إشارة الهاتف الجوّال، والأيدي المرفوعة عالياً، على أمل أن يرّن الهاتف بمكالمة من رجل غائب.