حين أطلق نقولا الشماس كلماته الشهيرة، مستعيناً في دفاعه عن النظام القائم ونمط «سوليدير» ومصالح التجار ــــ عن حقّ ــــ بالحجّة الليبرالية، علت أصواتٌ تسعى، بدلاً من حمايتنا من الليبرالية، الى حماية الليبرالية من الشماس. البعض اعتمد فكرة أن الشماس، وخلفه النظام اللبناني، لا يمثل «الليبرالية الحقّة»، بل ليبرالية رثّة، مشوّهة، تسوّغ الاحتكار والنهب، فيما الليبرالية «الأصيلة» تكسر الاحتكارات، وتحارب الفساد، وتوزع الضرائب عطايا اجتماعية، وتبني الحدائق للأطفال…
البعض الآخر حاول أن يقنعنا بأن هناك ليبرالية «جيدة»، تقوم على الحقوق والحريات والديمقراطية، وليبرالية «شريرة»، هي «النيوليبرالية»؛ وفي بلدٍ طرفي كلبنان، كان من الطبيعي أن تشيع ايضاً تلفيقات ايديولوجية من نوع «هناك ليبرالية اوروبية وليبرالية اميركية» الخ…
في الأكاديميا الأميركية، دأب بعض الذين يُعادون الرأسمالية (ولكن من وجهة نظر غير شيوعية) الى صوغ واستعمال تعبير «النيوليبرالية» كهدفٍ للتصويب عليه وتجنّب التشكيك بالنظام الرأسمالي ككلّ. مرّةً، كتب لي استاذٌ يميني تعليقاً على ورقة بحثية: «لماذا تهاجمون «النيوليبرالية»؟ ما الفرق بينها وبين «الليبرالية»؟ قولوا صراحةً انكم تعادون الليبرالية وانتقدوها مباشرة!». هو، وإن كان هدفه الدفاع عن الرأسمالية، الا انه كان محقّاً؛ فـ «النيوليبرالية» تحيل الى مجموعة سياساتٍ انتشرت منذ أواخر السبعينيات، صاغها مفكرون سعوا الى «تحرير» اقتصاديات الغرب من خصائصها الاشتراكية ومن تدخل الدولة فيها، فأعادوا الاعتبار الى الاقتصاديين الليبراليين «الكلاسيكيين»، كريكاردو وآدم سميث، وأصرّوا على أن الليبرالية الاقتصادية هي مكمّلٌ ضروري لليبرالية السياسية ــــ فلا وجود للحرية الفردية، في نظرهم، بينما الدولة تتحكم بمعاشك، وتقاسمك دخلك، وتقرر مسار السوق. هم، بهذا المعنى، الترجمة التاريخية المعاصرة لليبرالية الكلاسيكية، وهكذا يرون أنفسهم، ولا امكان ــــ على أي حال ـــــ للتفريق بين سياسات «ليبرالية» وسياسات «نيوليبرالية».
للحقّ، فإن ليبرالية القرن التاسع عشر، كنظيرتها اليوم، لم تعدُ أن تكون ايديولوجية نخب. كما كتب كارل بولاني، لم تكن الليبرالية يوماً تياراً شعبياً، ولم يعتمد الحكام سياسات تحرير الاقتصاد بسبب ضغطٍ من المجتمع، بل كانت ــــ تماماً كالشيوعية ــــ «نموذجاً نظرياً»، لم يتحقق يوماً على أرض الواقع، بل روّج له مثقفون واقتصاديون ونخب قريبة من بلاط الحكام. حتى الليبرالية السياسية لم تصبح يوماً ايديولوجيا جماهير، وفي صفوف الناخبين العاديين في اوروبا واميركا ــــ خلال القرن العشرين ـــــ كانت الطبقات الشعبية أقرب الى الأفكار الاشتراكية، أو اليمين المحافظ والقومي (في أميركا منذ عقود، يُطلق تعبير «ليبرالي»، كتعريف لسلوك سياسي على «يسار الوسط»، يحيل بشكل اساسي الى الديمقراطيين البيض، ولكن لا علاقة للتعبير بالايديولوجيا الليبرالية).
ولأن الليبرالية هي نموذجٌ نظري، لم يتحقق تاريخياً بشكله الخالص، فإنّ أي فشل للإيديولوجيا الليبرالية، وأي كوارث تسببها للشعوب، وكل عوارض الفساد والنهب وتزييف الارادة الشعبية، يمكن تفسيرها على أنها «ليست الليبرالية الحقيقية» أو أنها «لم تطبّق كما يجب». لهذا السبب قال بولاني إن الليبرالية، طالما أنها حية في صفوف النخب ولهم مصلحة بها، فلا امكانية لهزيمتها نظرياً أو عبر استعراض نماذج تاريخية لفشلها، فـ «الليبرالية الحقيقية» ــــ السوق التي تعمل لوحدها وفق الاشارات الاقتصادية حصراً، والدولة لا تتدخل الا للتنظيم، والتسليع الكامل للنقد والعمل والأرض ــــ لم تتجسد يوماً حتى نحاكمها.
تبقى، من هذا النقاش اللبناني، أمثولتان. الأولى تتعلق بطبيعة الليبرالية، وأنها ليست مصدر الديمقراطية والانتخابات، ولا الاطار الوحيد لها، ولا تنص على العدالة الاجتماعية، بل هي، كما كتب هاريسون فلاس (مقتبساً ايشاي لاندا) في مقالٍ أخير في مجلة «جاكوبين»، «التزام بأفكار مجرّدة، كالعدالة والحرية» بلا أن تسائل النظام الرأسمالي أو تشكك به، ما يجعل هذه الأفكار ــــ حين تشرّع نظاماً للإستغلال ــــ فارغة من معناها، ومبتذلة، وبلا قيمة عملية. فما معنى أن تكون لك حرية التعبير والتفكير وانت تعيش حياةً من العمل المستمرّ والهمّ والديون؟
المبحث الثاني هو عن المسألة الاقتصادية في بلادنا. نحن نعيش مرحلةً تاريخية ثبت فيها فشل «النيوليبرالية» ــــ التي هيمنت على صنع القرار الاقتصادي في العقود الأخيرة ــــ على كل المستويات وبكل المعايير. الدول التي تملك مقداراً من سيادة وتحترم شعبها وتخطط لنفسها، كالصين وبعض بلدان شرق آسيا، تجاهلت نصائح «البنك الدولي» بالكامل، وحققت التنمية وهي تسخر من قواعد السوق «الحرة». حتى الدول المستعمَرة، التي فرضت عليها النماذج الليبرالية فرضاً، في جنوب اميركا، قد كفرت بها ونشأت حركات اجتماعية كاملة حول معارضة هذا النمط من السياسات. بل أن آلان غرينسبان نفسه، المدير السابق للبنك الفيديرالي الأميركي، اعترف عام 2010، أمام لجنة من الكونغرس، أن ايديولوجيا السوق التي آمن بها طوال أربعين سنة قد ثبت بطلانها.
أمّا في المنطقة العربية، فما زال الجميع ــــ لا فرق بين «يمين» و»يسار»، علماني واسلامي ــــ خارج هذه المعادلة، وعلى يمين اليمين في الموضوع الاقتصادي كلما جرى طرحه. لا يوجد نقدٌ حقيقي للسياسات السائدة ولا محاولاتٍ للتفكير في بديل، خارج محاولات الدفاع عن الليبرالية وإعادة تدويرها عبر «أنسنتها» وتجميلها. الخطاب الذي يعدّ «يسارياً راديكالياً» في لبنان يشبه كلام يسار الوسط في مكانٍ محافظ كأوروبا. لا زالت هناك حاجة الى فهم أن زمن الهيمنة الليبرالية قد انقضى، وأن أنجح أوهامه كان في فصل السياسة عن الاقتصاد، واقناع الناس بقبول النظام الذي يحيط بهم بداهة، وايهام البعض بأنه من الممكن التفكير في مشروع سياسي، أو مشروع تغييري، أو مشروع مقاوم، من دون نظرية اقتصادية وفكرٍ ينحاز الى الناس.