ليست بسيطة مهمة الحراك المدني المتشكل في بيروت هذه الأيام. حتى ولو كانت مطالبه محدودة ومحددة. حتى ولو اتحدت كل مكوّناته من أشخاص ومجموعات. حتى ولو صار هدف التحرك الأوحد هو رفع ربع كيس واحد من النفايات لا غير... ستظل مهمة هذا الحراك شائكة معقدة. وهو ما يفرض على أصحابه وعياً أكبر ومسؤولية أكثر.
ذلك أن مجرد وجود حراك مدني أهلي شعبي، قضية إشكالية في لبنان. والأسباب كثيرة. أولها أن هذا البلد تكوّن تاريخياً وتدريجياً، انطلاقاً من مقولة البلورة المرحلية لوجدانات الجماعات الطائفية فيه. بمعنى أن الطوائف كانت سابقة للدولة. ولذلك تكون في وجداناتها وفي أذهان أتباعها وجيناتهم ربما، أن لطوائفهم أسبقية في التاريخ، تصير أولوية وأرجحية في الحاضر، على الدولة وعلى مؤسساتها وعلى بنياتها وأسسها. لا بل على الوطن نفسه. بدليل أن مشاريع أصغر من لبنان، أو أكبر منه، ظلت حاضرة طيلة حياة البلد، كل مرة أحس وجدان أي جماعة أنه في خطر. في وعي غالبية من اللبنانيين إذن، أو في لاوعيهم، المذهب وجد قبل الوطن. لذلك يظل ترتيبه في سلم قيم الحياة العامة، قبل دولته أيضاً. الباقي، كل الباقي، من وطنجيات وعلمانيات وشعارات وأدبيات وثرثرات من نوع «الدين لله ...» و»الطائفية البغيضة» ، كل ذلك مجرد زجليات في أحسن الأحوال، وخبث شخصي أو انفصام عام في أسوأها. نحن ناس طائفيون حتى الشوكي من نخاعاتنا. هو «المقدس» الموهوم والمضلل، قد تحول معنى هائماً في حياتنا، وفق تعريف ليفي شتراوس. لا شيء قبله ولا شيء فوقه. لا لزوم للأمثلة، حرصاً على عدم النكء وتحريك السكين القديم... كل هذا يأتي فجأة حراك مدني ليقفز فوقه. ما يولد في وجهه صعوبة أولى.
ثاني الصعوبات، أن محيطنا في حرب. وهي سلسلة من الحروب أهلية. لا مكان فيها لحراك أهلي سلمي مدني. وأسوأ ما فيها أنها حروب أهلية باسم الدين. فيما لبنان، البلد المأزوم بأديانه وطوائفه وحروبه السابقة وحراكه الأهلي الراهن، على تماس مع تلك الحروب. لا بل هي في قلبه. من الحدود إلى كل منطقة طائفية الهوى والولاء في لبنان. تماس صار في أفكار الناس وسلوكياتهم والتزاماتهم. لا في مجرد الاقتناعات الفردية الكامنة أو بعض المواقف الشخصية. حرب المنطقة، صارت حربنا. منذ أول رصاصة أطلقت في سوريا، وحتى آخر غارة تشن في اليمن. تصوروا سوريالية المشهد: سنة وشيعة ومسيحيون وعلويون ودروز، جلادون وضحايا في حروب على مدى كل ما حولنا وعندنا، وفجأة، وسط ذاك الحقد والعنف والقتل كله، مجموعة شباب يسيرون عكس السير. بل عكس حركة التاريخ الذي يسير عكس نفسه. في عودة منه إلى الوراء، يقفز قفزاً صوب قرون وسطى، على جثث ورؤوس وأشلاء بشر ودول وأوطان.
ثالث العقبات الألغام المزروعة أمام الحراك المدني، أن في لبنان مسؤولين كباراً في الدولة، هم بالفعل والواقع، إقطاعيوها. لا بالمعنى المجازي. بل حرفياً. كل مسؤول منهم، يتعامل مع الدولة منذ ربع قرن على الأقل، على أنه «شريك مرابعجي» فيها. يقتطع منها بعض أرضها وبعض ناسها وبعض مقدراتها. مقابل أن يعطيها ولاءه وبالتالي ولاء أقنانه ومقاطعجييه لها. والمفارقة أن مجموع هؤلاء يشكل غالبية لبنانية ساحقة. غالبية تقبل نيرها ومستبدّها وقهرها وبؤسها، لقاء نظام الحماية والانتفاع. هكذا يصير هدف الحراك الشعبي في مكان ما، مواجهة لا مع طبقة سياسية، بل مع مجموعة قطاعات شعبية أيضاً، لها شعبيتها وشعبويتها وشِعَبها العميقة داخل الدولة والنظام ومواقع النفوذ والقمع والعنف والتغطية.
رابع صعوبات «مدنيي بيروت»، أن هناك فعلاً، شيئاً من المؤامرة في أجواء بلدنا ومنطقتنا والعالم. سوء حظ «المدنيين» أن حراكهم انطلق في لحظة لا تزال تزكم الأنوف بروائح الثورات الملونة، كما بروائح النفايات الوسخة. مصادفة ليست لصالحهم، أن وضع المواطنة عندنا انفجر، وبات لا يحتمل، وبلغ حد طفحان كل كيل، في شكل متزامن مع حراك آخر ملازم لحراكهم. هو حراك المصالح الدولية، وحسابات تغيير الأنظمة والدول. فمع رفض «نظريات المؤامرة» كذريعة، ومع ضرورة إسقاط معزوفات التخوين، يظل واقعاً هاجس البعض حيال أي تزامن بالصدفة، يصير ريبة في الواقع.
إزاء هذه الصعوبات المطبات، وإزاء ضرورة أن يستمر هذا الحراك وأن يزهر وأن يثمر تغييراً، تصير مسؤوليته ومسؤولية أهله كبيرة جداً. أولى واجباتها الخروج من لعبة الطبقة السياسية اللبنانية نفسها. أي عدم الوقوع في منطق الحصرية والإلغائية والإقصائية والتعميم، وخصوصاً التغلب على منطق الحقد في الفعل أو رد الفعل. بعض الخطابات والكتابات واللهجات وحتى السحنات... لا يوحي بإدراك تلك المسؤوليات. فالبلد متخم بالطوائف ــــ الجماعات. ليس يحتاج طائفة جديدة باسم علماني ومضمون أصولي. تكفيه أصولياته وأصوليات من حوله. أسوأ ما قد يصيب الشارع المطلبي الآن أن يتحول إلى أصولية مدنية.