تروي نادرة كوبية قديمة جداً، أن اتصالاً روحانياً تم ذات يوم بين فيديل كاسترو وتشي غيفارا. دار الحديث بين الرفيقين العتيقين عن الثورة وكوبا وأميركا والعالم. قبل أن يسأل الطبيب الأرجنتيني صديقه المحامي الكوبي: كيف صارت علاقتكم مع جيرانكم الأميركيين؟ هل تحسّن الوضع بين واشنطن وهافانا، أم لا يزال الحصار والقطيعة سيدي الواقع؟ فابتسم كاسترو قبل أن يجيب التشي: هذه مسألة ستطول بعد. ربما عليها أن تنتظر وصول رجل من لوننا إلى البيت الأبيض، ووصول رجل من عندكم إلى الفاتيكان!
قبل أيام كانت النادرة الكوبية تتحول نبوءة. وكانت تتحقق حرفياً بين روما وهافانا وواشنطن. غير أن التدقيق أكثر في معطيات الحدث، يظهر أن المسألة لم تكن مجرد طرفة تروى. ولا هي نتاج حس شعبي أو مرارة وجدان وحسب. بل ثمة علاقة سببية، كان يمكن تصورها فعلياً، بين ما يمكن أن يفعله بابا أرجنتيني ورئيس أميركي أسود وثائر عجوز مثل فيديل.
ذلك أن حدث الانفتاح الأميركي الفاتيكاني – الكوبي، ترك أكثر من قراءة تحليلية وتفسير سببي. أصحاب منهجية المصالح وحسابات الجيوبوليتيك، قالوا انه منذ عامين على الأقل، كان من الممكن توقع خطوة كهذه. للأسباب المثلثة التالية: أولاً خلفيات قداسة البابا. قيل إن الرجل الواصل إلى السدة الرسولية في آذار 2013، لا بد أنه وقف كما كل سلف له، متسائلاً عن علة كونه حبراً أعظم. فكّر كالآتي: يوحنا بولس الثاني، ابن بولونيا والحرب الباردة وصراع الغرب مع موسكو السوفياتية، لم يتردد في اختيار دعوته. قرر بسرعة أن يكون بابا المواجهة مع دولة بريجنيف المريضة. بها رسخ دور حاضرته. وبها وطّد دعائم سياسته الخارجية. خصوصاً أن «رسالة» كهذه كانت منسجمة طبيعياً وعضوياً مع كل ما هو وكل ما يمثل. سريعاً ذهب إلى وارسو. وسريعاً مد يده البيضاء لعمال حوض غدانسك ونقابتهم التي ترفع العذراء شفيعة لتشكيلهم المطلبي. سريعاً وجّه إليهم صرخته الإنجيلية الشهيرة: لا تخافوا!». وسريعاً نسج ذلك المثلث البولوني الذي ساهم في تغيير عالم الثمانينات، بين فويتيلا في روما، وفاليسا في فرصوفيا وبريجنسكي في واشنطن. فصارت للفاتيكان مهمة كونية، يحصنها البابا المنتصر على الموت، بصورة السوبر ستار، حتى ربح رهانه.
بعده جاء اللاهوتي الألماني راتزنجر. ابن المجمع الفاتيكاني الثاني وسينودس العقيدة والإيمان، وابن زمن ما بعد سقوط الاشتراكية الدولتية، وبداية الصراع الديني في القرن الواحد والعشرين، وفق نبوءة أندريه مالرو. وسريعاً أيضاً، لم يتردد بنديكتوس السادس عشر في اختيار علة بابويته: المواجهة مع الإسلام السياسي. ألقى محاضرته الشهيرة في جامعة ريغنسبورغ، وأطلق إشكالية صراعه الجديد.
بعد فويتيلا وراتزنجر، جاء الأرجنتيني برغوغليو. في زمن لا حرب باردة فيه، ولا حرب ساخنة. بل هو زمن الفوضى العالمية الكاملة. زمن العالم الخارج عن السيطرة، كما كتب بريجنسكي نفسه في تقييمه أحداث قرن، أو زمن اختلال العالم. ومرة ثالثة، لم يتردد خليفة بطرس في اختيار «رسالة» بابويته: أن يكون بابا المصالحة. مع الذات، ومع الآخر.
وتكمل قراءة المنهجية المصالحية لتقول، إنه فيما كان فرنسيس يعد العدة لتجسيد دعوته البابوية هذه، كان كاسترو الأخ الأصغر لثائر هافانا، يفقد حلفاءه في محيطه. خصوصاً في فنزويلا. فيشعر بالحصار المتقدم نحوه. ويقتنع تدريجياً بضرورة الخروج من تركة «الأخ الأكبر»، شيوعياً وعائلياً. وفي شكل متزامن، كان أوباما، الرئيس المتقدم في آخر سني رئاسته، يبحث عن تسجيل اسمه في سفر تاريخ الرؤساء الأميركيين. وهو السفر الذي لا يحفظ من سكان البيت الأبيض، إلا الذين سطروا حرباً أو سلاماً، أو الاثنين معاً... هكذا تقاطعت حسابات الثلاثة، فأنتجت انفتاحهم ومصالحتهم ومشروع سلامهم.
غير أن قراءة أخرى ممكنة للحدث نفسه. قراءة أبعد قليلاً عن سياسة المصالح وحسابات الدول. قراءة أقرب إلى دائرة الإنسان الكامن في الزعيم، والوجدان الراسخ تحت لقب السلطة. ماذا لو كان برغوغليو الإنسان مثلاً، لا يزال ابن أميركا اللاتينية. ابن فقرائها وبؤسها. ابن لاهوت تحريرها ومجمع مديلين وأدب المعتقلات وصلوات غوتييريز وبوف؟! ماذا لو كان الرجل الأبيض، وهو في سدة حاضرة السلام، لا يزال أيضاً رجل الثورة الإنجيلية وسوط الهيكل وقلب موائد التجار والفجار؟! وماذا في المقابل، لو كان أوباما، الإنسان قبل الرئيس، لا يزال يحمل في جيناته عصب ثورة بشرته ولون عينيه وحق كل إنسان في الحرية والسعي إلى السعادة؟ وماذا لو كان كاسترو الختيار، وهو على عتبة المقلب الآخر من حياته، قد توقف هنيهات من آخر حياته الدنيا، ليسأل وجدانه عن حياة أخرى ممكنة؟ ماذا لو كان العجوز الذي أدى واجبه للثورة الدائمة، قد ترك فسحة من عمره الأخير ليدقق في «واجباته الدينية» حول سؤال الآخرة، على طريقة رهان باسكال، أو على طريقة الاشتراكي الأصيل، فرانسوا ميتران، حين سأله برنار بيفو: إذا ما اجتزت هذه الحياة، ووجدت أن هناك إلهاً، ماذا تقول له؟ ليجيبه رجل القوة الهادئة والوردة الحمراء: سأقول له: الآن صرت مؤمناً!
ألا يعقل أن تكون ثنائية الثورة مع الصلاة، أو الصلاة لأجل ثورة حق وعدالة وسلام وحرية، هي ما جمع البابا والرئيس والزعيم؟؟ نقل عن كاسترو أن زائره الأرجنتيني أحيا فيه توقاً قديماً إلى الصلاة...