وضعت «منظمة الشفافية الدولية» تعريفاً للفساد على أنه «كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعية»، ويستخدم البنك الدولي تعبيراً مشابهاً: «الاستغلال السيئ للوظيفة العامة الرسمية من أجل تحقيق المصلحة الخاصة». وقد وسّعت «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003» مفهومها للفساد، مشيرة إلى أنه متصل بالرشوة بجميع وجوهها في القطاعين العام والخاص، والاختلاس، والمتاجرة بالنقود، وإساءة استغلال الوظيفة، وتبيض الأموال، والإثراء غير المشروع.
استخدمت كل هذه التعابير لتوصيف الفساد في لبنان، ما أبقى التعريف مقتصراً على ممارسات فردية لبعض السياسيين وموظفي الإدارات العامة وفي القطاع الخاص ورجال الأعمال. وبالتالي رُسِّخَت صورة الفساد، إهمالاً أو عمداً، على أنه ناتج من ممارسات لصوص ومختلسين ومنتفعين لا رابط عضوياً يجمعهم ولا مسار واضح لسلوكهم.
على الرغم من تكاثر أعداد الجمعيات، التي تعنى بمكافحة الفساد أو تلك التي اتخذت من الفساد والشفافية شعاراً لها وأصدرت مؤشرات عنهما، أو تلك التي عملت على هامش هذه الشعارات، فإن الخطاب العام بقي أسير هذه التعريفات الهشّة، ولم يصل قطّ إلى التعريف الذي يعبّر عن نمط إدارة الشأن العام في لبنان!
يرى الوزير السابق شربل نحاس أن «الفساد هو منظومة سلطوية متماسكة. اللصوص موجودون في أي مكان في العالم، لكن في لبنان الفساد هو مؤسسة كاملة فرضت نفسها على الجميع، والناس رضوا بها. الفساد هو وصف مشين تطلقه النخب المثقفة المدجنة بهدف إشاحة النظر عن مساوئ الانتظام الفعلي للمجتمع الذي لا ترغب النخب في الانسلاخ عنه ولا في تغييره، لكن هذه المناورات لا تعود كافية في ساعات الحَرَج».
مصدر هذا الوضع ليس حديث النشأة، كما يقول الخبير الاقتصادي كمال حمدان، لكنه «بدا أكثر سطوعاً في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، إذ ارتبط بالنهج الهجين الذي تحكّم بعملية تطبيق اتفاق الطائف وتقاسم السلطة، وتجسّد تحت عناوين ومحطات وفّرت الأرضية المناسبة لنشر وتكريس ومأسسة ثقافة الفساد». هذا الفساد يكاد يقتطع في شكل ريوع مختلفة أكثر من سدس الناتج المحلي الإجمالي القائم للبلد، بحسب تقديرات إحصائية ذات صدقية علمية.
إذاً، هل المقصود أن الفساد هو جزء من النظام في لبنان؟ أم أنه إحدى أدوات هذا النظام؟ أي نماذج بارزة في هذا الإطار؟ ولماذا لا ينتفض الناس ويقتلعون كل هذا الفساد؟ يعتقد نحاس أن مكوّنات «المنظومة» تضمّ سياسيين ورجال أعمال وموظفين وقضاة ومثقفين ورجال دين ونقابات... «كيف ما ضربت بتطلع السلّة مليانة». أما مستوى التناغم بين هذه المكونات فهو الذي يميّز بين حالة اللصوصية الفردية وحالة الفساد.
وفي رأي الوزير السابق الياس سابا، إن هذه الحلقة التي تعمل بتناغم تحوّلت إلى مؤسسة وصار لها قواعد بين الناس، إلى درجة أننا إن أوقفنا الفساد اليوم في لبنان سينهار النظام فوراً. أبرز مثال على ذلك هي «سوليدير» وما ورد على لسان رئيس جمعية تجار بيروت نقولا شماس لجهة زوال الدول والتيارات الفكرية التي تتحدّث عن التأميم ما يحتم في رأيه ضرورة لمنع تحويل وسط بيروت إلى أبو «رخوصة». ففي الواقع، إن التأميم هو «تحويل ملكية خاصة إلى ملكية عامة وفق مقتضيات المصلحة العامة» أما تأسيس شركة «سوليدير»، فهو «يندرج ضمن فكرة تعدّ أسوأ نماذج الفساد لأنها تستخدم شعار المصلحة العامة من أجل نقل ملكيات خاصة متعددة إلى ملكية خاصة واحدة».

الفساد يكاد يقتطع في شكل ريوع مختلفة أكثر من سدس الناتج المحلي الإجمالي

والأسوأ هو أن أصحاب الحقوق منحوا مقابل ملكيتهم الثابتة (الأراضي والأملاك المبنية) والتي لم تتوقف أسعارها عن الارتفاع أبداً، أصولاً متحرّكة هشّة هي عبارة عن أسهم يمكن أي مصرف أو تاجر أسهم التلاعب بأسعارها.
«سوليدير» لم تنشأ عرضاً، بل جرى التخطيط لها وتحضير البيئة المناسبة لتنفيذها. مجلس النواب الذي يفترض أن يمثّل مصالح اللبنانيين، شرّع هذه الشركة ولم يعارضها إلا ثلاثة نواب، ثم انبرى مجلس الوزراء لإقرار المراسيم التنفيذية العائدة لها، ومنحها أكثر من 34 تعديلاً على المخطط التوجيهي، وأكثر من 5 تعديلات على مساحات ردم البحر، فضلاً عن امتيازات وخدمات عامة لا تُعَدّ ولا تحصى، وخصصت لها الأقلام، ودافعت عنها النقابات والجمعيات التي تردّد أنها تمثّل دولة المؤسسات، وفتح لها القضاة أبوابهم بدليل عشرات الدعاوى ضدّها التي لا تزال نائمة في أدراجهم، ومنحها الغطاء رجال الدين على اختلاف مذاهبهم وتياراتهم الفكرية... «مؤسسات الأوقاف المسيحية والمسلمة هي من أكبر الملاكين في سوليدير» وفق سابا.
وبحسب نحاس، تستهدف هذه المنظومة إفقار الناس بشكل ممنهج. فما يحصل هو أن المنظومة تريد تحقيق أرباح سهلة وسريعة، ولذلك تتعاون على رفع أسعار الأصول لتحقيق مأربها. ويصبح رفع الأسعار عبارة عن «ضريبة على كل ما يمكن استهلاكه، ومحاصيل هذه الضريبة تصبّ في يد هذه المنظومة». هكذا تصبح الأكلاف مرتفعة ونوعية السلع متدنية، لكن يبقى السؤال الأساسي مطروحاً: كيف يستمرّ الناس بتأدية هذه الضريبة لحساب منظومة الفساد؟
يقول نحاس إن «منظومة الفساد في لبنان تركت مسارب تغذية خارجية بعد أن سطت على الموارد المحلية التي استنفدت سريعاً. الإبقاء على هذه المسارب لا هدف له سوى السطو على المزيد. أي أنه كان على هذه المنظومة أن تترك بعض الفتات لعامة الشعب من أجل إتاحة قدر أكبر من الموارد التي يسهل السطو عليها».
النبع الخارجي لا ينحصر بمجال واحد، بل يشمل تحويلات المغتربين الذين أنتجتهم هذه المنظومة بعدما حولتهم إلى عاطلين من العمل في لبنان، ويشمل التمويل السياسي الذي تحصل عليه الأحزاب من بعض الدول والذي يغطّي جزءاً من الحاجات الاجتماعية كالطبابة والتعليم، وهناك التمويل الآتي من المنظمات الأجنبية مباشرة للدولة، بالإضافة إلى التمويل المخصص من الخارج لمنظمات المجتمع المدني، وهناك نتائج عمليات تبييض الأموال... بعض هذه المبالغ يصيب المجتمع، لكن غالبيته يصبّ بين يدي مكوّنات المنظومة لتراكم ثرواتها. هذه المعادلة يشار إليها بتوزيع الثروة بين اللبنانيين والهوّة الكبيرة بين المنظومة وبين الباقين.
هذه المنظومة أنتجت الكثير غير سوليدير وستنتج المزيد أيضاً في ظل حالة التراخي الشعبية. فعلى سبيل المثال، يورد نحاس العديد من الأمثلة لعلّ أبرزها: أصدرت حكومة نجيب ميقاتي في ظل رئاسة ميشال سليمان، 470 قراراً استثنائياً غير شرعياً، ثم وافقت عليها حكومة تمام سلام من دون أي سؤال عن مضمونها. حكومة سعد الحريري في ظل رئاسة ميشال سليمان أصدرت قراراً بردم 640 ألف متر من البحر في صيدا. سُرقت 10 ملايين ليرة من تعويضات خدمة كل أجير في لبنان، بحجّة أن هذا الجزء من الأجر ليس أجراً بل بدل نقل مزعوم.
ويعدّ التخلّف عن إقرار الموازنة العامة منذ عام 2005 إلى اليوم، نتاج هذه المنظومة التي تربط إقرار الموازنة بتسوية سياسية تستبعد التدقيق في الإنفاق وأسبابه المشروعة أو الفاسدة. ويندرج في هذا الإطار أيضاً تخلّف هذه المنظومة عن إنشاء سلّة خدمات عامة مقبولة سواء الكهرباء أو المياه أو الهاتف أو غيرها، وإطلاق شعار الخصخصة بديلاً من القطاع العام «الفاشل». ومنها أيضاً وجود جمعيات لرجال الأعمال وأصحاب العمل لا هدف لها سوى تقديم أوراق اعتماد لدى السياسيين والانتفاع بالتكافل والتضامن في ما بينهم، وبمساندة قضائية وبأقلام إعلامية...
ووفق حمدان، إن المعوق الأبرز لقيام الدولة المركزية سببه أن الطوائف اضطلعت بدور الوسيط بين الدولة والمواطن، وتحوّلت إلى «طوائف سياسية» عبر هذه العلاقة بالدولة، وبالتالي إلى ممرّ إجباري وشبه وحيد للتحكم بعملية إنتاج واصطفاء ما يسمى نخب أهل الحكم ورجالات السياسة والإدارة، فإن ذلك يجهض في المطاف الأخير قيام الدولة المركزية، وبخاصة دولة المواطنة المدنية والعضوية المعاصرة.
ويرى نحاس أنه لا يكفي التمتّع بالجرأة والتشهير بالأعمال الفاسدة والفاسدين. ولا يكفي الوعظ أيضاً. في الواقع، «لا مبرر للمراهنة بسذاجة مفرطة على أن شرح النصوص المرجعية الشكلية (النصوص الدستورية والقانونية) كفيل بهداية هؤلاء، أقلّه الفاعلون بينهم، فهم يدرون ماذا يفعلون بينما البقية غير مكترثين».




الموقع يتقدم على الموقف

يقول الوزير السابق شربل نحاس، إن اعتبارات الموقع تتقدّم على اعتبارات الموقف لدى المثقفين. وهذا الأمر يفسّر الطابع الشديد المحافظة للمثقفين والتزامهم الدقيق لطقوسيات المؤسسات التي توفر لهم منافعهم وتأثيرهم (جامعات، أحزاب، دين، إدارة، قضاء، إعلام...)، وذلك أياً كان مضمون خطابهم وادعاءاتهم. يتخذ هذا الالتزام المحافظ أشكالاً نافرة، تشمل التزام معاجم لغوية وصياغات خطابية ومرجعيات إسنادية محددة. وهو يبرز أهمية السلوك الاستفزازي الذي يلجأ إليه بعض المثقفين لتأكيد افتراقهم عن المؤسسات التي يفترض أن ينتموا إليها، سواء أكان على مستوى الهندام أم الصيغ التعبيرية المختلفة. لكن التزام الدور يبقى القاعدة، وهو يصل إلى حدود كاريكاتورية مع «الزعماء» الطائفيين في لبنان الذين يتولون صفة مثقفين محوريين ويبينون التزاماً كاملاً بطائفتهم وبموقعهم القيادي ضمنها في إطار عقد ضمني صارم مع أتباعهم. يترتّب على الاتباع التأييد عند كل مناسبة، من انتخابات ومهرجانات وحروب، ويرتب على الزعيم إبداء الثبات والشراسة في الدفاع عن الطائفية ومصالحها الفئوية ومقارعة الزعماء الآخرين وعقد الاتفاقات مع القوى الإقليمية والخارجية، إنما من دون أدنى التزام ولا مطالبة بموقف محدد من أي موضوع آخر، سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي. وبالتالي نجد نفسنا أمام حالة قصوى تقوم كلياً على مستلزمات الموقع وتلغي كلياً مستلزمات الموقف.