خلال السنوات الماضية كان الدواء المكوّن من المادة الفعالة «أميتراز»، ممنوعاً في لبنان. قرار المنع أصدره وزير الزراعة في حينه حسين الحاج حسن، استناداً إلى عدد من الدراسات والمقالات العلمية التي تشير إلى أن الدواء المذكور، الذي يستعمل لمكافحة مرض الفاروا المنتشر في قفران النحل، يترك أثراً سلبياً على النحل فضلاً عن ترسبات سامة في العسل.
وبحسب الاستاذ الجامعي المتفرّغ في كلية الزراعة، المتخصص في مجال المبيدات الزراعية، سالم حيّار، فإن هذه المادة تترك «ترسبات في العسل ومع التراكم في الاستهلاك تؤدي إلى سرطانات، وهي خطيرة بصورة عامة ولذلك منعت الوزارة استيراده. علماً بأن لبنان يعتمد لائحة المبيدات الزراعية المسجّلة في الاتحاد الأوروبي، وهذا الدواء ليس مسموحاً باستعماله هناك».
على هذا الأساس قرّر الحاج حسن شراء أدوية بيولوجية أو عضوية توزّع على النحّالين مجاناً بدلاً من الأدوية المبنية على تركيبة «أميتراز»، لكن وزير الزارعة الحالي، أكرم شهيّب، لم يسلك المسار نفسه، بل استمع من تجار المبيدات إلى معطيات مناقضة متلازمة مع طلب كبير من مربي النحل على هذا الدواء، واندفع للموافقة الى شراء كميات من هذا الدواء رغم كل الشبهات المثارة حول مضاره السلبية.
هكذا أطلقت وزارة الزراعة مناقصة لشراء 200 ألف شريحة من «أميتراز». تقدّم إلى المناقصة ثلاثة عروض، وفازت شركة «خوري للتعهدات والتجارة». اللافت أنه تحت ستار العطلة القضائية، أحيل الملف إلى ديوان المحاسبة حيث منحته الغرفة المناوبة برئاسة القاضي عبد الرضى ناصر، موافقتها على الصفقة.

قيمة المناقصة ارتفعت بعد إعادة النظر فيها إلى 1.5 مليار ليرة


هذه الغرفة هي نفسها التي كانت مناوبة ووافقت على تلزيم صفقة طباعة الطوابع المالية لوزارة المال والتي منحتها الوزارة بطريقة التراضي وفق استقصاء أسعار وبعد خفض مهلة التبليغ للشركة نفسها، أي «خوري للتعهدات والتجارة».
في هذا الوقت تحرّكت النيابة العامة لديوان المحاسبة ودرست الملف ثم وضعت ملاحظات أساسية على الملف، طالبة إعادة النظر بالتلزيم، ثم راسلت الديوان ووزارة الزراعة طالبة التريّث بالتنفيذ.
النيابة العامة رأت أن هناك العديد من المبيدات المناسبة في السوق، وسألت عن تضمين دفتر الشروط اسم المادة الفعالة «اميتراز» بالذات، علماً بأن هناك مواد فعالة أخرى في السوق. تلميح النيابة العامة يشير الى شبهة في التلزيم، لأنها على علم بأن الأدوية تخضع لوكالات حصرية محصورة بجهة معينة.
وأوضحت النيابة العامة أن هناك تعارضاً بين العروض المقدمة وبين أحكام دفتر الشروط لجهة اسم الدواء والمادة الفعالة فيه وتفصيلاته التقنية ومحتواه، فضلاً عن ان تسجيل الادوية في وزارة الزراعة يفترض أن يتضمن الاسم التجاري للدواء الزراعي والمادة الفعالة المكوّن منها ومحتوياته. كذلك اشتبهت النيابة العامة بمطابقة الدواء وفق الالتزام المعروض على الديوان مع المواصفات الفنية المنصوص عنها في دفتر الشروط... أما سعر الشريحة الواحدة من الدواء فقد كانت تبلغ 6 آلاف ليرة، أي ما يوازي 1.2 مليار ليرة للكمية المطلوبة (200 ألف شريحة).
الغرفة المعنية في الديوان قرّرت بعد إعادة النظر، ورغم مخالفة القاضي إيلي معلوف، الموافقة على تلزيم «خوري للتعهدات والتجارة» متجاهلة كل ملاحظات النيابة العامة لدى الديوان. لا بل جرى التلزيم على أساس مختلف لجهة التسعير. فقد كان لافتاً أن سعر الدواء الإفرادي انخفض إلى 4 آلاف ليرة لكل شريحة منه، (أي ما يفترض أن تكون قيمته الإجمالية 800 مليون ليرة لـ200 ألف شريحة)، لكن القيمة الإجمالية للصفقة بلغت 1.5 مليار ليرة بالتزامن مع تقديم الملتزم 120 ألف شريحة مجانية! وبالتالي إذا كان خوري قادراً على تقديم سعر أرخص، وزيادة الكميات المجانية، فلماذا لا تعيد الوزارة النظر بتعزيز المنافسة وتوسيع المشاركين فيها على أساس أدوية أخرى؟ إن سعر الـ200 ألف شريحة على أساس 6000 ليرة لكل واحدة يساوي 1.2 مليار ليرة، وسعر الـ320 ألف شريحة على أساس 4000 ليرة يساوي 1.28 مليار ليرة، وبالتالي لماذا دفعت الوزارة مبلغ 1.5 مليار ليرة؟
مهما يكن الحال، فإن مبرّرت استعمال مادة «أميترزا» لمكافحة حشرة الفاروا التي تصيب النحل، لم تعد قائمة. فبحسب حيّار، فإن هذا الدواء استعمل في السوق لفترة طويلة تزيد على 10 سنوات قبل أن تمنعه وزارة الزراعة في الفترة الماضية، وبالتالي فإن هذه المدّة كافية من أجل تكوين مناعة لدى المرض ضدّ الدواء، وبالتالي يجب التوقف عن استعماله لهذا السبب أيضاً.
ويسجّل حيّار موقفاً أساسياً من عملية توزيع الدواء على مربي النحل، مشيراً إلى أن من الأفضل التوقف عن إلزام النحالين باستعمال دواء معيّن وخصوصاً أن الدواء يترك اثراً سلبياً وترسبات تؤدي إلى سرطانات وأمراض خطيرة، بل يجب توزيع هذه المبالغ على النحالين بهدف تطوير قفرانهم ومزارعهم.
ووفق خبراء في القانون المالي، فإن مجرّد وجود شكوك حول مسألة تتعلق بصحّة المواطن من خلال الترسبات التي يمكن أن يتركها الدواء في العسل، يجب أن يمثّل هذا الأمر حافزاً لوقف استعمال هذا الدواء واللجوء إلى الأدوية والمبيدات البديلة المسموح باستعمالها في الدول الأوروبية وفي أميركا، لكن السؤال الأساسي: من يقف وراء هذه الشركة التي يغطّيها ديوان المحاسبة وتفتح لها الأبواب في وزارة الزراعة (وقبلها في وزارتي الصحة والمال) وترفع لها الأسعار في المناقصات؟