تحضر نصوص سامر محمد إسماعيل في «أطلس لأسمائك الحسنى» (دار التكوين ــ دمشق) بوصفها إعلانات عن جيل وجد نفسه محاصراً بكل ما لا يشبهه، وها هو يسعى لفرز مخلفات عشوائيات الميديا من جهة، وميراث الكراهية من جهة ثانيةٍ، ثم إعادة تدويرهما على نحوٍ آخر، خارج هذه «المتاهة القروسطية»، في خلائط بلاغية متناقضة، وكشف حساب مرهق أطاح الأزمنة السعيدة. كل ذلك عن طريق استدعاء المفارقة، في المقام الأول، وإذا بالنيون الإعلاني يتحوّل إلى متن شعري يحتشد بمفردات لا تحصى من ركام الإشهار، وكأن حياته مجرد مسودة كتبها الآخرون على نحو سريالي، بضربات متوتّرة، يصعب تفكيك خطوطها، فيغرق بتركيب جمل عابثة كنوع من الاحتجاج الهش على هذا الانتهاك الفظ للفرد الأعزل.
كل ما يحدث في هذه البلاد هو «تدريب الأحصنة على المواء»، ففي «إسطبل الذكريات تُذبح الأحصنة بأقواس الكمنجات»، قبل أن يلتفت إلى انهيار الأمكنة التي كانت يوماً ما تحرس الذاكرة من كدمات شوارع اليوم. هذا الإغراق الإعلاني ينطوي على ذات ممزّقة ومنهوبة ومكبّلة، من دون طوق نجاة، فنحن حيال صندوق فرجة متخم بصور الكارثة، على هيئة مدوّنة مشحونة بما هو حميمي وحسّي ومغدور، واستثمار الطباق والجناس في ترميم بلاغة اللحظة. هكذا تتناوب صورة البلاد في فردوسها وجحيمها حيناً، وصورة الحب المقموع طوراً، فينفرط عقد الأسماء الحسنى في هذا الأطلس الممزّق تحت ضربات الخصوم، فما تبقى من اليابسة «مقبرة الدحداح»، وزمن التوابيت الطويل، وشوارع مقفرة. يقحم صاحب «متسوّل الضوء» (2008) مخزونه البصري والمعرفي والتراثي في تضاريس النصّ، في إحالات موحية، تشدّ من عصب الكتابة، لحظة انزلاقها إلى ما هو جحيمي، وما هذه الاستغاثات المتتالية إلا محاولة لمقاومة العطب العمومي، وأهوال الحرب، والخراب الروحي الذي أصاب الجهات كلها.

دمشق هي ياء النداء والمنادى في لعبة بازل لا تكتمل
دمشق هنا، هي ياء النداء والمنادى، في لعبة بازل لا تكتمل، فكلما أراد هذا الشاعر النزق التخفّف من أوجاعها، طعنته «بسيارةٍ مفخّخة»، أو برحلة مضجرة في بولمان مدن الشمال، فيما تتحوّل طاولات الاستراحات العامة إلى توابيت، و«الجنازات مثنى وثلاث ورباع». لن نجد في هذه النصوص ما يصلح لأن يكون توطئة لما سيأتي، فسامر إسماعيل يخوض مباشرة في المياه العميقة، غريق لا يطلب النجدة من أحد.
لا بروفة أولى للنشيد، إذ ينهمك مباشرة بالجملة المفيدة، ووقائع حطامه الفردي. يقول «في بلاد يذبحون فيها التماثيل/ أعيش تعيساً وبخير»، و«أيها الحب توقّف عن الموت بهذه الطريقة السينمائية المكشوفة». هكذا يحصي خسائره على مهل، مقلّباً موقد الوجع في مسالك شعرية متباينة، تعلو حيناً إلى حدود الدهشة، وتخفت في مكانٍ آخر لفرط تكرار اللعبة اللغوية ذاتها، فيما يذهب في مطارح أخرى إلى غنائية عالية تستعير أدوات العتابا في تفسير معنى الفقدان «كم جناحاً يحتاج قلبي ليسقط كابن فرناس، على أندلس بلا ذيل، وعلى دمشق بلا عتابا، وعلى جزيرة دون خابورها».
في طبقة أخرى من الكتابة، يلجأ إلى التناص مستثمراً النصوص المقدسة، والشعر القديم، والأغاني الشعبية، في وعاء سردي واسع، بقصد مواجهة أحوال الحطام، واستدعاء مشهديات من أرشيف لم يعد متاحاً، لشخص يرى أنه يلعب «أفضل دور ثانوي للندم». لكن توثيق هذه اليوميات يخضع في بعض نماذجه لإغواء الشذرات الخاطفة التي عمّمها الفايسبوك بغزارة، كصنف شعري رائج، على محمول ذاتي يتّكئ على المفارقة العابرة، والذاكرة الجمعية لعناوين أفلام وأغانٍ وإعلانات تخاطب ما هو غرائزي أولاً، من دون أن يحفر عميقاً في البلاغة الشعرية، فيقع تحت سطوة هذه العناصر المسبقة الصنع في تأثيث النصوص، من دون أن يجد فرصة لتنفس أوكسجينه الخاص، وتنقية حقله التخييلي من فائض الحالة الإشهارية. إنها بلاغة الركام البلاستيكي في مطحنة المدن المحتضرة، كأن يقول «لا جوائز ترضية في حروب الشوارع/ والموت طرفة من القرون الوسطى/ أما الحب فإعلانات طرقية/ عن صابون مضادٍ للقشرة والأسف والكآبة». على هذا النحو يندحر الكائن الخاسر خلفاً، ليس لديه ما يفعله في هذا البازار الموشوم بقوائم الموتى والسماسرة والمداجن، وفداحة الفقدان. لا «جزيرة الكنز» هنا، ولا «ميس الريم»، ولا «النمر الوردي»، ولا مواعيد في مقهى «المتحف الحربي». فقط مزيد من القتلى والفزّاعات والطعنات، في مرثية طويلة لمدن ونساء وأزمنة لم تعد موجودة في التقويم، كمن يشيّع جنازة. نصوص سامر محمد إسماعيل مربكة ومرتبكة، لفرط انخراطها في تركيب ما هو مألوف، ومسعاه إلى تحويل الخردة اللفظية إلى معادن نفيسة «الفتاة التي فتفتت قلبي ولم تنتبه لصناديق بريد ما يطلبه المتألمون، في نزهة المشتاق إلى بلد/ كنّا حتى الأمس القريب فقط/ نجوبه ليلاً على دراجة هوائية».