قد تكون مجموعات المعارضة السورية «المعتدلة»، وفصائل جيش الفتح، هي الخاسر الأكبر مما يجري في سوريا، وأول من باعه الغرب والداعمون حين رضخوا ــــ ضمنياً ــــ للواقع الجديد. فقد قضت الغارات الروسية رسمياً، ودفعة واحدة، على فكرة «الحظر الجوي» ومشروع «المنطقة الآمنة» في الشمال؛ وهي تقصّدت استهداف مواقع على مرمى النظر من الحدود التركية (كانت المجموعات المسلحة تعتبرها حصينة من الغارات الجوية)، وداخل حدود «المستطيل» بين جرابلس ومارع الذي تم الترويج لوضعه تحت «الحماية» التركية.
علينا انتظار العمليات البرية المكمّلة حتى نعرف الأثر الحقيقي لهذه التطوّرات، ولكن، في أحسن الأحوال، فإن هذه المجموعات ستعمل من الآن وصاعداً في بيئةٍ جديدةٍ صعبة. واذا ما وضعنا جانباً التصعيد اللفظي والإعلامي الذي يقوم به عرب الخليج، فإن الغارات تخلق وضعاً جديداً بين المقاتلين وداعميهم: المخابرات الأميركية، مثلاً، ستتردّد في إغداق الأسلحة والصواريخ على مجموعاتها، حتى يدمرها، ببساطة، سلاح الجو الروسي في اليوم التالي (وموسكو، بالمناسبة، لم تعلن يوماً أنها ستضرب «داعش» حصراً، بل هي بلّغت الأطراف المعنية بأنها تستهدف «أعداء الدولة السورية»، ومسؤولوها العسكريون، على اية حال، يطلقون اسم «داعش» على كل مجموعة يضربونها).
سواء كان الأمر مصادفة أو نتيجة تخطيط، فإن التوقيت كان أهم ما خدم «الحلف الجديد» في سوريا. في العادة، يتمحور ردّ الخصوم في هكذا حالة ــــ طالما أن المواجهة المباشرة غير مطروحة ــــ حول تعزيز المجموعات المسلحة التابعة لهم، وتزويدها بسلاحٍ أفعل وتمويلٍ أكبر؛ غير أن الغارات الروسية قد انطلقت في وقتٍ وصلت فيه ثقة الجمهور الغربي (والحكومة والإعلام) بالمعارضة السورية المسلحة الى أدنى درجاتها، وصار دعم المجموعات المسلحة موضوع تندّرٍ في الصحافة، بمعنى أن هذا السلاح امّا يذهب الى «القاعدة» أو الى أفراد يذوبون ويهربون عند أول اشارة للخطر. من جهةٍ أخرى، فإن الدول الخليجية لم تعد في وضعٍ مالي يسمح لها بذرّ المليارات بلا حساب، وهذا لا ينطبق فقط على السعودية، وحالها معروف، بل ايضاً على قطر (قد يصعب على المرء أن يتصور ان دولة بهذا الحجم الصغير، وبهذه الموارد الضخمة، قد تقع في عجزٍ، ولكن هذه هي الحال)؛ فقطر لا تملك احتياطات مالية كبرى، وهي ــــ على عكس السعودية ــــ قد راكمت ديناً حكومياً معتبراً، ولديها التزامات هائلة في السنوات المقبلة، تتعلق بمشاريع البنى التحتية واستضافة كأس العالم، وميزانيتها، اذا اعتمدنا الأرقام الرسمية لهذه السنة، التي احتسبت على أساس سعر 65 دولاراً للبرميل، ستقع في عجزٍ كبير (ربما كان على «الثوار» أن يراهنوا على الإمارات).
بالمعنى الأشمل، ما يجري اليوم في المنطقة هو نتيجة تراكماتٍ عرّت الخليج والغرب من كلّ «أوراقه»، الخليج لعب كلّ رهاناته في المنطقة، وبالمعنى السيئ للكلمة: لم يبقَ حليفٌ محتمل الا وتمّ تجنيده، كلّ قريةٍ أو مدينةٍ لهم فيها نفوذ صارت ساحة حرب ودمار، كلّ من يمكن شراؤه انضوى في الركب، وكل شعارٍ طائفي أو تحريضي استخدم. لم تعد هناك امكانيات للتصعيد. يهدّد الخليجيون (والأميركيون) روسيا، في الإعلام، بأنها ستصير «عدواً» للمسلمين بعد تدخّلها، وتعجّ الانترنت ببيانات لمشايخ سعوديين وشاميين تلوّح بإعلان الجهاد على «الروس الكفرة». ولكن هذا الكلام لم يعد له من معنى، فتهديد روسيا و»إعلان الجهاد» عليها حصل منذ سنوات، وقد دقّ النفير، بالفعل، مرّات عدّة، وكلّ من هو مستعدّ للإنتظام في هذا المشروع السعودي تطوّع وجاء يقاتل في أرضنا، فما هو «المزيد» الذي به يهددون؟ (وحين يشبّهون سوريا، بالمعنى الايجابي، بأفغانستان، فهل هم يفقهون الرسالة التي يوجهونها الى السوريين؟ والمستقبل والمصير الذي يتوعدونهم به؟)
من العراق الى سوريا واليمن، بدأ الغرب والخليج يصطدمان بحائط الواقع واستنفاد الخيارات. لقد تقلّصت طموحاتهم في بلدٍ كالعراق من الاستئثار بكامل الحكم والعملية السياسية (عبر شخصيات كاياد علاوي) الى دعم «ثورة العشائر» والمشاريع الأميركية (الفاشلة) في الأنبار؛ والوضع في اليمن اسوأ. ومن يعامل حلفاءه كوقودٍ للإحراق، بدلاً من الاستثمار بهم وتأطيرهم والحفاظ عليهم، يجد نفسه في نهاية المطاف وحيداً.