ثمة مصادفات في التواريخ، لا تفسير لها إلا أنها دروس وعبر وخلاصات من التاريخ نفسه وفيه وعنه. مثلاً، أي مصادفة أن ينتحر غازي كنعان عشية ذكرى مرور خمسة عشر عاماً، يوماً بيوم، على هندسته اجتياح لبنان. وأن تكون أحداث لبنان هذا بالذات، سبباً أو سياقاً لانتحاره... أو أي مصادفة أخرى أن يسقط برج الرافعة العملاقة في مكة، في 11 أيلول. أي في اليوم نفسه الذي خرج فيه 17 إسلامياً من مدرسة ذلك الفكر، ليسقطوا برجين أميركيين. لتستكمل المصادفة في أن يكون برج الرافعة السعودية باسم بن لادن، الشركة.
فيما 11 أيلول الأميركي كان موقعاً باسم بن لادن أيضاً!
مصادفات كهذه لا يتوقف عندها ناسنا كثيراً. ولا إعلامنا. خصوصاً في زمن استهلاك الزمن. بسرعة جادات الاتصالات وثورة الرقميات وموت الخبر لحظة ولادته وتأثير الشاشات الصغيرة على حجم العقول وسعة ذاكراتنا والوجدان... غير أن مصادفة أخرى سجلها لنا التاريخ قبل أسبوع، تستحق مزيداً من التوقف والإضاءة: في الأول من تشرين الأول، كان بنيامين نتنياهو يتحدث في نيويورك. مصادفة التاريخ أن خطابه جاء بعد ساعات قليلة على الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد طفل فلسطين، محمد الدرة، بين يدي والده، برصاص قتلة نتنياهو، مباشرة على هواء شاشات العالم والرأي العام الدولي. في فسحة النهار نفسه، شاء التاريخ أن يتكلم نتنياهو من على منبر المجتمع الدولي. في المبنى الأكثر تجسيداً للشرعية الدولية في عالمنا الراهن. وأن يطلق من هناك، كل ما تفوه به...
إذ يندر في التاريخ خطاب كهذا. أكثر من 3700 كلمة. وأكثر من 3700 مغالطة وكذبة وتزوير وتحوير. فضلاً عن ذروة العجرفة وقمة الصلافة والجلافة والوقاحة. تحدث نتنياهو عن أن دولته هي بنت آلاف السنين. وأن كل من حاول تدميرها دمر هو وزال. لكنه نسي طبعاً أن يخبرنا أن كل علماء الآثار لم يجدوا منذ 60 عاماً أثراً واحداً لمملكة داود. لا من الهيكل ولا من كل المملكة. باستثناء مخطوطات مريبة تثير التساؤل حول صحة تاريخه بمجمله.
ادعى نتنياهو أن «دولته» هي الوحيدة في الشرق، حيث «الجماعة المسيحية تستمر في النمو والازدهار سنة بعد سنة»! ولم يُسمع وسط تصفيق الأمميين له في «ذلك الشيء في مانهاتن» ــــ كما كان ديغول يسمي الأمم المتحدة ــــ صوت واحد يذكره بأن المسيحيين كانوا في فلسطين قبل اغتصابها، نحو 8 في المئة من سكانها، فصاروا اليوم في حدود واحد في المئة فقط. ولو أن مصيرهم في باقي دول المنطقة وتيوقراطياتها وأنظمة استبدادها، ليس أفضل ولا أكثر اطمئناناً. وزعم نتنياهو أن «دولته» هي المكان الوحيد في الشرق اليوم، حيث تحفظ المقدسات، وتكفل ممارسة المؤمنين لشعائرهم، في ظل ديمقراطية منجزة وقضاء مستقل. ولم يسأله سياسي أو صحافي أو أممي عن مصادرة يومية لوطن، وطرد مستدام لشعب، وعن وضع اليد على كنائس ومساجد وجغرافيا وديمغرافيا، بالجريمة الموصوفة وبالإبادة المشهودة. وذهب الرجل أبعد، فاتهم نتنياهو الأمم المتحدة نفسها، بما سماه عقدة مناهضتها لدولته الديمقراطية. مستعيناً بدليل أن عشرين قراراً صدر عن الشرعية الدولية ضد اسرائيل في الأعوام الأربعة الماضية، في مقابل قرار واحد حيال الحرب السورية الدامية... ولم يفتح مسؤول في الجمعية العامة جردته الداخلية، ليذكر بطل جرائم غزة، بأن أي قرار دولي ضد «دولته» لم ينفذ منذ العام 1947 والقرار 181 وحتى اليوم...
غير أن وقاحة الرجل ظلت تتفوّق على ذاتها عند كل عبارة. حتى وصف كيانه بدولة التسامح الوحيدة في المنطقة، دولة الطلاب المسلمين في أرفع جامعاتها، ودولة الأطباء والممرضين الاسرائيليين الذين عالجوا ألاف الجرحى السوريين، ودولة الإنجازات والأفضال على كل العالم، في الاتصالات والزراعة والطب والتكنولوجيا والغذاء... «حتى في صحون طعامكم، حين تتلذذون بالبندورة الكرزية، هذه أيضاً أُصِّلت في اسرائيل، إن كنتم لا تدرون»! وإن نسي الحمص والفلافل المسروقين كما كل «دولته» بفجور الفاجر والتاجر معاً.
«أيتها السيدات والسادة، قفوا مع اسرائيل لأن اسرائيل لا تدافع عن نفسها وحسب. أكثر من أي وقت مضى، اسرائيل تدافع عنكم...». ما فات أؤلئك السيدات والسادة أن «دولة» نتنياهو قبل خمسة عشر عاماً بالتمام من تشدقه هذا، لم تدافع عن طفل اسمه محمد الدرة. بل قتلته برصاصها الحي، أمام النقل الحي، فيما العالم متخم بالضمائر الميتة. لا لأنه طفل. ولا لأنه عدو. ولا لأنه فلسطيني. بل لأنه فلسطين!
قد يكون بث خطاب نتنياهو كاملاً، كوثيقة على ذروة العنصرية، أفضل وسيلة للتضامن مع الإعلامية هناء محاميد التي كادت تستشهد بقنبلة «تسامحية» من قتلة نتنياهو مباشرة على الهواء.
تبقى فكرة أخيرة، منفصلة ـــ متصلة، كتب الرائع جورج خضر يوم السبت الماضي في الزميلة «النهار»، أن «شغور المركز فترة من الزمن، أفضل من ملئه بأسقف تافه». معادلة جريئة دقيقة حقيقية، تصلح لكل موقع وشغور وتفاهة مرشحة. شكراً صاحب السيادة!