بلدية بيروت تدير الأذن «الطرشا» لطلبات المدارس والثانويات الرسمية، هذا ما يؤكده أكثر من مدير، سواء في المدارس التي تملكها الدولة، ولا سيما مجمع بئر حسن التربويّ، أو في المدارس المستأجرة. «ما في تلفون للسؤال عن أحوالنا ومشاكلنا»، يقول مدير إحدى المدارس، فيما القانون بالنسبة إليه «واضح وضوح الشمس، ولو لم يكن كذلك لكان تدخل البلديات الأخرى لمساعدة المدارس، والنماذج على ذلك كثيرة، سواء في المدن الأخرى والأطراف، قد عُدّ هدراً للمال العام».
لا خيار، بحسب المدير، أمام البلدية للانسحاب من المسؤوليات تجاه المؤسسات التي تقع في نطاقها.
يتسلح هنا بالمادة 49 من مرسوم تنظيم وزارة التربية الرقم 2869 بتاريخ 16/12/1959 المعدّلة بموجب القانون 247 بتاريخ 7/8/2000 وتنص على الآتي: « تتعاون وزارة التربية والسلطات المحلية والأهلون في القرى على تحمل نفقات المدارس، فتؤمن الوزارة أفراد الهيئة التعليمية والإدارية وتقدم السلطة المحلية أو الأهلون البناء والتجهيزات المدرسية ولوازمها وفاقاً لشروط تحدد بمرسوم يتضمن بصورة خاصة الأصول المالية الواجب اتباعها»، لكن المادة نفسها تشير إلى أنّه يمكن للوزارة أن تأخذ على عاتقها جميع النفقات المترتبة على السلطات المحلية أو الأهلين أو بعضها وذلك في حدود الاعتمادات المرصدة لهذه الغاية في الموازنة.

وإذا كانت المادة 49 من قانون البلديات (المرسوم الاشتراعي الرقم 118 تاريخ 30/6/1977) تنص على أن: «يتولى المجلس البلدي دون أن يكون ذلك على سبيل الحصر الأمور الآتية: مراقبة النشاطات التربوية وسير العمل في المدارس الرسمية والخاصة وإعداد التقارير إلى المراجع التربوية المختصة»، فإنّ المادة 50 تبدو غير ملزمة، إذ تنص على: «يجوز للمجلس البلدي ضمن منطقته أن ينشئ أو يدير بالذات أو بالواسطة أو يساعد على تنفيذ الأعمال والمشاريع التالية: المدارس الرسمية ودور الحضانة والمدارس المهنية».

ينفي محافظ بيروت رفض أي طلب لمدرسة للمساعدة
يسأل المدير: لماذا ندفع الرسوم البلدية إذا كنا لا نحصل على الخدمات العامة؟». يشير إلى أن المجمعات التي بنيت منذ 12 عاماً وكلّفت المليارات لم تخضع لأي صيانة للمباني لجهة «دهن» الصفوف أو إعادة النظر في التجهيزات أو في التمديدات الصحية أو حتى لأي إجراء يتعلق بالسلامة العامة للتلامذة، وإذا حصل ذلك فالتمويل الذاتي. يلفت في هذا الإطار إلى أنّ سقوف الصفوف مصنوعة من مادة اسمنتية تبين أنّ الغبار الذي يتساقط منها يسبب أمراضاً سرطانية وهي عادة لا تستخدم إلاّ للمرائب، ما يتطلب إنشاء سقوف عازلة، «وهذا كله يحتاج إلى أموال غير موجودة في صناديقنا، فأي تحسين يكلّف آلاف الدولارات، فيما مساهمة وزارة التربية للصناديق لا تتجاوز 5 ملايين ليرة سنوياً، إضافة إلى الرسوم التي يدفعها التلامذة في التعليم الثانوي فقط». هل رفعتم مرةً طلباً بالمساعدة إلى بلدية بيروت ورُفض؟ يجيب: «توسطنا بطريقة غير مباشرة عبر وزير التربية، إلاّ أن كل محاولاته وصلت إلى طريق مسدود... حوّلوها سياسة». بالنسبة إلى المدير، «الأهداف تربوية ويهمنا أن نأكل عنباً لا أن نقتل الناطور، فالناطور لا نستطيع أن نقترب منه». لا يقتنع بأن السبب قد يكون ضعف الإمكانات المالية إذا عرفنا أن احتياطي الأموال في بلدية بيروت يصل إلى مليار و200 مليون دولار أميركي.
تقول مديرة إحدى الثانويات إنّ أقصى ما يمكن أن تتلقاه الثانوية من البلدية هو مبلغ رمزي لا يتجاوز 300 ألف ليرة لبنانية لتمويل الاحتفالات المدرسية التي تكلّف مليوني ليرة لبنانية سنوياً بالحد الأدنى. تشير إلى أننا «قصدنا البلدية لمساعدتنا على إعادة ترميم بناء الثانوية القديم المملوك من الدولة، من دون جدوى، ما اضطرنا إلى اللجوء إلى جمعيات خاصة وخارجية. «صندوق المدرسة لا يتحمل المبلغ المطلوب»، تقول، إننا «لم نطلب يوماً مساعدة البلدية وجرت تلبيتنا حتى في الأمور الصغيرة مثل رش الحشرات أو معالجة زحل التربة، ولا يحصل حتى الاهتمام بحديقة المدرسة التابعة للبلدية أصلاً». وتروي كيف أجّرت البلدية المرائب تحت الأرض في مدارس الطريق الجديدة وهي تتقاضى أموالاً من المعلمين والموظفين، فيما لا تقدم أي خدمة في المقابل.
لا يشعر مدير ثانوية أخرى بالمشكلة لكون ثانويته كبيرة وغير متعثرة وتستطيع أن تسيّر أمورها بنفسها «ومش مضطر اترجى البلدية». اللافت ما يقوله لجهة أنّ مبادرة البلدية من تلقاء نفسها مفقودة «لكن من يطلب يأخذ وإن كان التسييس أفسد كل شيء».
يسأل مدير إحدى المدارس المتوسطة «ما الذي يمنع البلدية من أن تخفف الأعباء عن المدارس الرسمية، فتهتم بصيانة المباني وتغطي مثلاً فواتير الكهرباء والانترنت والمياه المكسورة منذ سنوات والمقدرة بملايين الليرات؟»
يجيب عضو المجلس البلدي في بيروت منيب ناصر الدين أنّنا «لسنا الجهة الرسمية التي تتولى الإشراف على المدرسة الرسمية، وإذا كانت هناك ثمة حاجات فلتطلب من وزارة التربية التي تدير المدارس بصورة مباشرة». ويشير إلى أن البلدية لا تستطيع أن تصرف مالاً في أملاك ليست تابعة لها، وإن كانت لا تتأخر عن تلبية أي طلب يصب في التعليم وخدمة المصلحة العامة. ويوضح أن البلدية وضعت عقارات تابعة لها في تصرف وزارة التربية، إلاّ أنها لا تستطيع أن تسهم في ترميم مدرسة، فمثل هذه المشاريع يحتاج إلى موافقة ديوان المحاسبة.
«من يقصدنا نتدخل لمساعدته بأقصى ما نستطيع»، هذا ما يؤكده محافظ بيروت القاضي زياد شبيب. لا يعرف، كما يقول، ما إذا كان في حوزة بلدية بيروت أي طلبات ملموسة من مديري مدارس أو ثانويات رسمية، «ومش على حد علمي تقدم أي منهم بطلب للبلدية ورفض، إلا إذا لم يوضع على جدول أعمال الجلسات»، مشيراً إلى أنّه تواصل في العام الماضي بصورة شخصية مع مديرة إحدى الثانويات وساعدها على تنفيذ مجموعة من الأشغال المتعلقة بالبناء والصيانة، وإذا كانت هناك طلبات أخرى، فباب المحافظة مفتوح لكل الناس، لكن شبيب يلفت إلى أن إدارة المدارس كمرفق عام تتولاها وزارة التربية، فيما دور البلدية هو المساهمة في تنفيذ المشاريع.
«القصة تلبيس طرابيش»، بحسب الخبير الاقتصادي جاد شعبان، مشيراً إلى أنّ البلدية تتذرع تاريخياً بالنص القانوني الغامض لتتخلى عن دورها لمصلحة المحاصصة في الحكومة المركزية. تقديم الخدمات العامة مسألة إرادة سياسية، يقول شعبان.
هذا ليس حال بلدية بيروت وحدها بل حال بلديات كل المدن فهي لا تتدخل على نحو عام، كما يقول أحد المديرين في صيدا. يتذكر أن بلدية صيدا تدخلت مرة واحدة منذ 14 سنة ودفعت فاتورة المياه. برأيه، السبب مالي، على الأقل بالنسبة إلى مدينتنا التي لا تتجاوز ميزانيتها السنوية 5 ملايين دولار وهناك نحو 20 مدرسة رسمية تقع في نطاقها. أما في القرى الجنوبية المحيطة، فالوضع ليس مشابهاً، بحسب المدير، إذ إن عدد المدارس في نطاق البلدية يكون ضئيلاً، وبالتالي تسمح الإمكانات أحياناً بتقديم معونات مالية وعينية مثل شراء المولدات الكهربائية، أو تأثيث المدرسة بالمقاعد الدراسية وأجهزة الكومبيوتر وغيرها. يحتاج الأمر كما يقول أن يحمل أحد أعضاء المجلس البلدي أو أحد الموظفين الهم التربوي ويتابعه. لا يخفي أن تصل المساعدة أحياناً تحت عناوين سياسية وطائفية كأن تساعد البلدية المدير، الذي تكون قد ساهمت هي في تسميته، وأحياناً يكون السبب شخصياً أي المونة والصحبة.
يؤكد رئيس بلدية صيدا محمد السعودي أن المساعدة تجري في الأمور البسيطة كأن يطلب منا المديرون مساعدة الشرطة البلدية على تنظيم دخول التلامذة إلى المدارس والخروج منها، أو رش مبيدات أو تشجير وغيرها، في ما عدا ذلك فالمشاريع الكبيرة مش شغلتنا وإن كان ولاد البلد لديهم أملية ببلديتهم، لكن القانون لا يلزمنا بشيء».
بلدية طرابلس ترصد 40 مليون ليرة سنوياً من الميزانية التي تبلغ 30 مليار ليرة لدعم المدارس الرسمية، كما يخبرنا عضو المجلس البلدي خالد صبح. يقول إن القانون يسمح ليس فقط بالاهتمام بالعمل التربوي، بل بالإشراف عليه أيضاً، وخصوصاً أن المدرسة الرسمية مرفق عام لا يبغي الربح، مشيراً إلى أننا «كنا في أوقات سابقة نغطي الرسوم للعائلات المعوزة قبل أن يصبح التسجيل مجاناً».
أما بلدية الغبيري، فذهبت في استخدام صلاحياتها لدعم المدرسة الرسمية إلى أقصى حدود، إذ بنت ثانويات ومدارس وقدمتها لوزارة التربية، وهي تخصص سنوياً 14.5 مليون ليرة لكل مدرسة تقع في نطاقها، إضافة إلى خدمات غير مباشرة مثل «دهن» الصفوف، الاهتمام بصيانة المراحيض و «ترمبات» المياه، وتجهيزات الكومبيوتر والألواح الالكترونية. يدرك رئيس البلدية محمد سعيد الخنسا أن لا شيء يجبره على الدعم، كما يقول، سوى الرغبة في مساعدة أصحاب الدخل المحدود، مشيراً إلى أن صرف الأموال في التربية هو أفضل استثمار للبلدية.