في مكان ما من سوريا، يتجوّل أربعة أو خمسة «مقاتلين» في سيارة «تويوتا»، هم نتاج برنامجٍ لوزارة الدفاع الأميركية ــــ كلّف أكثر من نصف مليار دولار ــــ بهدف انشاء «معارضة مسلحة» تقاتل لصالحهم في سوريا. هنا، يجب أن نميّز بين برنامجين أميركيين منفصلين، تدخّلت عبرهما واشنطن في الحرب السورية منذ بداياتها: الأوّل (والأكبر) هو برنامجٌ سري أدارته وكالة المخابرات المركزية لتزويد عددٍ كبيرٍ من المجموعات المسلّحة، من مشارب وايديولوجيات مختلفة، بسلاحٍ وعتاد وأموال لقتال الجيش السوري (بالتعاون مع السعودية وقطر وتركيا)؛ أمّا البرنامج الثاني، الشهير، الذي درّب خمسة مقاتلين بدلاً من خمسة آلاف وتمّ حلّه مؤخراًَ، فكان بإدارة وزارة الدفاع والجيش الأميركي.
في مقابلةٍ مع برنامج «ستون دقيقة» على قناة «سي بي اس» البارحة، قام الرئيس الأميركي ــــ فعلياً ــــ بالتبرؤ من البرنامجين، ومن خطط دعم المعارضة المسلحة بأكملها. بل هو صرّح انّه لم يكن، يوماً، مقتنعاً بفكرة «الحل العسكري» أو «بناء جيش» موالٍ للأميركيين في سوريا، ملمّحاً الى أنّ حلفاءه في المنطقة هم من أصرّوا على سلوك هذا الطريق («هم أرادوا منك فعل ذلك»، سأله المذيع باحثاً عن تفسير بعد أن تراجع اوباما، في دقائق، عن سياسةٍ عمرها سنوات وكلّفت آلاف القتلى). أوباما، بخطابه الجديد، ذهب أبعد من ذلك، متّهماً «حلفاءه المحليين» بأنهم ساروا في أوهامٍ غير واقعية («اعتقدوا أن كل ما عليك فعله هو ارسال شحنات من السلاح والمقاتلين»)، وأن بعض هذه الدول تريد توريط اميركا في حربٍ ليس أوباما في وارد خوضها («هم يعتبرون أن علينا ارسال أعداد غير محدودة من الجنود الى الشرق الأوسط، وأن المقياس الوحيد للقوة الأميركية هو في اعادة مئات آلاف الجنود الى المنطقة… لحكمها… ولا يشكل مقتل آلاف الجنود الأميركيين وانفاق تريليون دولار آخر مشكلة بالنسبة اليهم»).
قبل التأمّل في معنى عبارات اوباما، ومصير المسلحين الذين رهنوا أنفسهم (بوساطة الخليج أحياناً) للبندقية الأميركية، تجدر العودة الى تعريف السياسة لدى كارل شميت. المفكّر الألماني ــــ الذي يصعب نقاش نظرياته بمعزلٍ عن تاريخه الشخصي في دعم وخدمة النازية ــــ كان يعتبر انّه إن كان لمفهوم «المجال السياسي» من معنى، يختصّ به ويجعله مختلفاً ــــ نوعياً ــــ عن باقي مناحي الحياة الاجتماعية، فهو يقوم على مبدأ التفريق بين العدو والصديق. هذا التمييز هو الفعل المؤسس للسياسة، وهو يختلف جذرياً عن مفهوم «الصداقة والعداوة» في العلاقات الشخصية. «العدوّ السياسي» ــــ على عكس العدو الشخصي ــــ قد يكون «أخلاقياً» من وجهة نظرك، وقد يكون أصدقاؤك، الذين تشترك معهم في عداوة مع طرفٍ ثالث، «غير أخلاقيين». التمييز هنا «سياسيٌّ» بحت، أي أنّ العدو، ببساطة، هو من يقف ــــ أو يحتمل أن يقف يوماً ــــ على الجانب الآخر من المعركة ضدّك. هذا التفريق هو الذي يفرز المجتمع السياسي بشكلٍ قاطع وهو الذي يصنع «جماعات سياسية» تربط بينها، وتفصل، معادلة العدو والصديق.
ما طبع عدداً كبيراً من «المجموعات المقاتلة» التي ظهرت في بلادنا في السنوات الأخيرة، من ليبيا الى سوريا، هو افتقارها لهذه القاعدة، والخلط بين المصلحة الآنية والمبدأ، واجتراح تراثٍ كامل من المحاججة لتبرير التحالف مع «العدو العقائدي»، والتسلّح من الغرب، والإعتماد (الاضطراري، و»مرحلياً») على «الكفار». من يخرج على قواعد السياسة «الشميتية» يُخرج نفسه، تلقائياً، من مجال السياسة الفاعلة وتصير العناصر الأخرى في فكره السياسي (الايديولوجيا، العقيدة، الخيارات التكتيكية) مجرّد أدوات كلامية، معزولة عن بعضها البعض، لا يضبطها خطٌّ واضح يفصل بين الـ «أنا» و»الآخر».
في هذا الإطار، ثنائية «العدو» و»الصديق» لا تنطبق على مفاهيم نظرية، ولا تُعرّف بمعنى الضدّ من الشيء، بل هي واضحة وبسيطة، تتعلّق بالموقف من جماعات سياسية، بشرية، موجودة على الأرض، تكون السياسة بأن تأخذ موقفاً منها، وتعرّف نفسك على هذا الأساس. «الديمقراطية» و»الاشتراكية» و»الاستبداد» ليست أعداءً وأصدقاء، والخيار بينها وهمي الى حدّ ما؛ المجال السياسي فيه اميركا، والغرب الحليف معها، وامارات الخليج، والصين، وروسيا، وايران ــــ من هنا تبدأ السياسة، هنا الخيار وهنا الوضوح.
لهذا السبب، لا يحقّ لهؤلاء أن يشتكوا اليوم من «غدر» اميركا أو تقاعسها، فهم قد اختاروا القتال الى جانب «الغدارين»، والإعتماد على المستعمر، و»التذاكي» في السياسة (كأنه هو من سيستخدم اميركا، لا العكس). وبينما يصرّح الرئيس الأميركي بأنه قد تخلى عنهم، وأنه لم يؤمن بهم يوماً ما، يستمرّ الحديث عن «مؤامرة»، والخيبة من غياب الجيش الأميركي عن الساحة، والكلام الذي لا ينتهي عن «منع» السلاح النوعي عن المجموعات المسلحة في سوريا. هنا، ايضاً، تلفيقة عسكرية اسمها «السلاح النوعي»، يبدو أن قائليها لا يعرفون عما يتحدثون، أو يخلطون بين «السلاح النوعي» و»السلاح السحري». لا يوجد سلاحٌ، مخبأ في مكان ما، يمكنه اسقاط الطائرات، ودور صاروخ «ستينغر» في أفغانستان داخله الكثير من المبالغة والأسطرة: «السلاح النوعي»، بالنسبة الى أي حركة مقاتلة في العالم، هو «التاو» وخطوط الإمداد، هو التمويل غير المحدود، وهو الدعم الاستخباري الخارجي ــــ وهذا كله متوفّر منذ زمن. من الأجدى اذاً، بدلاً من تغطية الخيبة بالخرافات، البحث عن جذورها في مكان آخر.